
الإنسان بين السعادة والمعاناة
September 3, 2025نظرات في علم النفس
محمد ياقـوت
26/8/2023
حفظ الله مصر ورئيس مصر الرئيس
عبد الفتاح السيسي
تحيا مصـر
الإنسان بين السعادة والمعاناة
بحث في علم النفس
الإنسان بين السعادة والمعاناة
الإنسان والعلاج بالمعنى
الإنسان والعلاج بالتأمل
قوة التخيـل
أثناء فترة….
لم يكن ثمة شيء يأخذني من الألم إلى النعم أكثر من استغراقي في التأمل، بينما أتخيل كأني خرجت من هذه المعاناة إلى خارج الكرة الأرضية، سابحًا في اعماق الكون، متجاوزًا المجرات، هكذا كنت أتخيل، وأستغرق في الخيال حتى أصل إلى سرير وسكن أنا تحت العرش، هو سرير فاخر واسع تحت العرش، بينما أخلد إليه منعمًا مستشعرًا الأمن والأمان والراحة، هذا السرير داخل غرفة واسعة، زجاجية مطلة على الكون، يا لها من متعة حينما يكون هكذا إطلالة (فيو) (View).
فالإطلاقة ليست بحرًا جميلاً أو خضرة غناء بل هذه النجوم والمجرات والكواكب في رسم بديع في مشهد بديع عجيب، لم أكن أحتاج إلى بيتي، فشكل بيتي جميل، أنا في أحضان الكون العظيم تحت عرش الخالق، منتهى اللذة إلهية، قدرة إله السماء.
هذه الصدمة أدت إلى اضطراب نفسي، مشاعر الاكتئاب المفضي إلى الإضراب عن الطعام، وهذه الأمور الأربعة كونت الاكتئاب.
وقد تم مواجهة الإضراب عن الطعام بالتهديد والتخويف، فظهر عرض آخر، ظاهره اضطراب معدي وهو في الأساس مبني على مشاعر الهلع، حيث كنت أتقئ كل ما آكله.
ومن خلال التأمل العميق، استرجعت حالتي الطبيعية، حيث التأمل يأخذك إلى آفاق بعيدة، هناك بناتي الصغيرات ينتظرني، فلابد أن أتحمل وشركتي التي يعمل بها 1500 موظفًا بحاجة إلى عودتي لاستكمال مسيرة جميلة في قطاع الفنادق، وتلك الإنسانة الجميلة التي أحببتها وهي الوحيدة أيضًا في انتظاري، هذه العوامل الثلاثة جعلت معنى لمعاناتي.
هذه القيم الثلاثة جعلتني أتحمل المعاناة:
- الجب.
- الأبوة.
- تحقيق الذات.
الجب: حيث المرأة التي أحبتها لا تجعلها في نهي وهي تبتسم، أو في لحظات رومانسية عشناها، حيث أتذكر هذه القيمة، تهون المعاناة.
الأبوة: بناتي الصغيرات القصر، في انتظاري هذا يكفي لكي أتحمل لطالما تذكرت تلك الصغيرة التي لا يأتيهما النوم إلى على بطني.
العمل وتحقيق الذات:
إن شركتي كانت في لحظة مفصلية فكانت على وشك افتتاح الفرع الإقليمي خارج الدولة، وجاري الاتفاق على أحد الفتاوى بسلطنة عمان.
تذكرت قصة البيجابومي:
لقد كان لسجنه معنى صحيح لم تكن ثمة زوجة تنتظره ولا طفلة هو لها أبًا، لكن المعنى الذي قصده الخالق في عظيم جدًا، أن هذه المعاناة سيكون لها معنى، كذلك لنصرف عنك الغيوم، ويمكن لك في الأرض، وتتولى الخزانة العامة للدولة.
إن كان ليفزعني ألا تكون لمعاناتي معنا معنى، ولكن هاتديت بالتأمل، والتأمل الطويل، حيث استحضرت الصور الثلاثة في ذهنيه على أجمل حال صورة لامعة لكل من:
- المرأة المحبة.
- بناتي من حولي فرحين.
- شركتي تجوب العالم بفروعها.
بعدًا للبؤس! كيف أيأس إذن وأنا في قرارة نفسي أشعر بقيمتي، وأدرك أنني هنا والآن لمعنى في الحياة.
كيف تكشف عن المعنى؟
في لحظات المعاناة لابد أن تسأل نفسك:
- ما هو أول عمل ستقوم به إذا مازالت المعاناة.
- ما هي القيمة التي تجعلك تتحمل المعاناة.
- من الشخص أو الأشخاص الذين يمكنك أن تتحمل من أجلهم المعاناة.
إن إجابتك عن هذه الأسئلة الثلاثة، تضع لك عادلة معنى الحياة، والقيمة العليا في حياتك والتي بدورها تؤدي بك غلى تقدير وتخفيف ذلك، تلك هي المعادلة.
العمل الذي تحبه + القيمة العليا في حياتك + الأشخاص الذين تحبهم.
= معنى الحياة = تحقيق الذات = تحمل المعاناة.
ولنضرب مثالاً للمعادلة:
رجل أعمال من بلد ما، لديه 3 بنات، وزوجة محبة، ويحب العمل في مجال إدارة الفنادق، وقيمته العليا هي الحرية.
فهو إذن يجد معنى لمعاناته، فهذا حتى سيجبر على المعاناة.
يجد معي لحياته، حيث أسرة محبة وشركة ناجحة تغذي شغفه، وتحقق ذاته.
ومثال ثاني، طبيب حاورته….
العمل الذي يحبه: طب الأسنان.
وقيمته العليا: تخفيف الألم عن الناس.
والأشخاص الذين يحبهم ذلك الابن النجيب الذي يتوسم فيه أن يكون سابقًا في الطب مثله.
إن هذا الطبيب إذن ووقف محاولة ياقوت تلك.
يجد معنى لحياته، يتحمل آلامه، يحترم ذاته، ويجد في طبه تحقيق لذاته.
العلاج بالتأمل
لاحظت أثناء فترات المعاناة، في هذه الظروف القاسية، حيث انخفضت وزني حوالي 15 كيلو من الخوخ، إن التأمل:
- يشجعني، فكنت أتخيل أنني ألتهم الطعام الذي أحبه فأشعر بشيء من الرضا والشبع.
- يخفف من التوتر: ماذا عساهم أن يفعلوا في بناتي، أو شركتي، لم أكن أعلم ما يفعل بهم، هنالك أتخيل أن بناتي في حضني أو أن أسرتي وشركتي بين كفي العناية الربانية، فقط أتخيل أن الخالق ينظر إليهم بعين رعايته، وأنه بين كفيه.
- يخفف من الألم والبرد: فكان النوم في ظروف قاسية، فلما تأملت أني جسمي بين راحتي الرحمة، إن الدخول في التنويم الإيحائي كان يساعدها في تجاوز الألم، فقط تأمل عميق ودخل الجسم في حالة الاسترخاء، والتسامي، وأتخيل أني أصعد بجسمي فوق الزنزانة وأرى جسمي ملقى على الأرض، ثم أتجاوز الزنزانة بروحه إلى خارج السجن كله، ثم خارج الأرض كلها ثم أعبر الكون كله، سابحًا نحو العرش النوراني حيث السرير الذي أعد لي تحت العرش، وتلك الغرفة ذات الإطلالة البديعة على المجرات والنجوم والكواكب، لقد تركت جسدنا بآلامه، لقد تركت المعاناة في تلك الزنزانة في ذلك السجن في هذا الكوكب الصغير جدًا بينما وعين هناك نجونا الكون، وذلك حقيقي، أن الجسم بالنسبة للإنسان لا يساوي 1%، فالجسم بالنسبة للإنسان الأبدي الخالد، هو سكن مؤقت، أو ملبس سيخلعه إلى التراب، وتبقى حقيقته الكبرى أو وعيه الخالد.
كلما تخيلت هذه الحقيقة زال ألمي: لك أن تعتز وتفتن أن الجسم الذي يعاني إنما هو جسمك، وهو يشكل فترة مؤقتة بينما روحك وهي القسم الأعظم من إنسانيتك – متعافية وطيبة وتسبح في الكون.
4- التأمل يذيب الخوف: وذلك لأن الخوف حالة ذهنية، والتأمل يملأ هذه الحالة بالهدوء وراحة البال.
إذا صدقت أن الروح تحت العرش ومعها وعيك فسوف تطمئن بينما الجسم في تلك الزنزانة البعيدة.
في لحظات الجوع الشديد فكرت كيف أن التأمل يشبع، لقد تبين العقل البطن بقوته الجبارة كيف يقوم بدوره لتهدئة العقل من ناحية.
كيف كان محمدًا يقول لأتباعه، ومن ممكن منكم مثلي فإني أبيت إلى ربي يطعمني ويسقيني، لقد تكشف المعنى إذن، أنه يبيت يتأمل، يتغبن، ينحني راكعًا للمصدر، يسحب بكليته له. فالمصدر يمده بالطعام أو بالأحرى بخصائص الطعام، أن الذكاء الأعظم يستطيع ذلك، فهو محرك تلك القوى.
أو مريم العظيمة – البتول – كلما دخل عليها زكريا المحرب، وجد عندها رزقًا من طعام وفواكه ونحوها، قال “أنى لك هذا؟ قالت هو من عند الله”.
إن الطعام أو خصائص الطعام قد تصلك في لحظة اتصال صادق مع المصدر، إن التأمل كان يساعدني في ذلك.
تخفيف الألم بالوهم:
في لحظات المعاناة، كانت تسيطر علينا بعض الأوهام.
قال الكتور/ فيكتور فرانكل في الطب النفسي توجد حالة تعرف بـ”وهم الإبراء” Delusion of keprieve، في هذه الحالة يتملك الشخص المعاناة قبل تنفيذ حكم الإعدام فيه شعور غامض يشبه الوه بأنه سوف يجري إنقاذه من الإعدام في اللحظة الأخيرة “فيكتور فرانكل”.
لا ينبغي أن تبني أفكارك إلا على الحقائق.
وحالة وهم الإبراء هذه، أتتني في الأيام الأولى للمعاناة؛ حيث كان يأتي إحساس أو هم سعادة أن ثمة أحد أصدقائي من الضباط سوف يأتي لإنقاذي، ثم أدركت أن مشاعر الوهم تلك إنما هي ميكانيزما دفاعية لتخفيف الألم وكان المحقق يخبرني أن قائلاً: يومان وتذهب إلى بيتك، فكان هذا الكلام يريحني كثيرًا، واكتشفت بعد ذلك أن الكلام يقال لأمثالي لصرف انتباهنا عن فكرة الانتحار.
أحيانًا يكون الوهم علاجًا مؤقتًا أو مسكنًا للألم، ومثاله الذي يتناول الدواء بالإيهام، فبعض الأطباء النفسيين يكتبون روشتة فيها بعض الأدوية والتي تشتمل على طعم لاذع مع بعض الفيتامينات لإيهام المرضى أن هذا دواء، فيتناول المريض هذه المكملات، وتتحسن حالته فقط بسبب الإيهام.
نحن واحـد:
حالة المعاناة سواء مكان المعاناة (السجن) المتسبب في المعاناة (الساجن)، المتعرض للمعاناة، هذه الحالة تشبه خلية متكاملة، العنصر القوي يلتهم العنصر الضعيف، بيد أنها خلية واحدة، وفي النهاية ينتهي الجميع.
في هذه الحالة يتساوى الجميع.
المساواة:
في لحظات المعاناة يتساوى الجميع من المعاناة؛ فالسجناء واحد، عليهم ما بين طبيب ومهندس وعامل الجميع واحد ولا فرق بين سجين وآخر إلا بقدمه في الزنزانة.
وهؤلاء الأسرى بمن فيهم أساتذة الجامعة ورجال الأعمال والأطباء والمهندسون سيدهم في واقع الأمر هو ذلك السجان الأمي أو شبه الأمي، وهذا السجان الذي يفتح ويغلق باب الزنزانة.
يحدثنا عن ذكاءه، ونباهته، كما أنه لا يتمنى أن يكون ابنه أستاذًا في الجامعة أو رجل أعمال، كي لا يلقى نفس المصير، لقد بات في نظره أن هؤلاء مصيرهم السجن بسبب كثرتهم جدًا.
عجيبة جدًا تلك العظمة الداخلية وتضخم الذات التي كانت حيث جنبي التجانس.
سبب الانتحار:
لماذا ينتحر بعض البشر سواء كان في نعيم أو معاناة.
هناك أشخاص منعمون في أرجاء العالم وفي دول متقدمة كالسويد والنرويج ينتحرون بينما لا ينقصهم شيء من الحاجات الإنسانية بالإضافة إلى كونهم أحرار ينتحرون.
وعلى النقيض أشخاص يعانون ويسلكون آلامًا مبرحة ينتحرون أيضًا.
فالأول انتحر وهم منكم، والثاني انتحر وهو في معاناة، وكم منا ننقد بعض الأشخاص المقدمين على الانتحار في الحمامات جراء ما أصابهم من ألم مبرح.
إن فكرة الانتحار كانت تراودني كلما دخلت حمام.. بسبب ما أعانيه من ألم نفسي وجسدي وجوع وحقد وغياب عن رؤية بناتي الصغيرات وزوجتي وشركتي، لكن كلما ظهرت أحد بناتي في مخيلتي تبخر هاجس التفكير في الانتحار، يكفي أن أتذكر لحظات سعيدة قضيتها مع حبيبي أو أن ثمة أناس يحبوني هم في انتظاري وربما لو أقدمت على الانتظار فسوف يتكلهم حزن وتشريد.
إن فكرة الانتحار إذن تأتي في لحظة فراغ وجودي أو إحساس بالعدم أو غياب معنى الحياة انخفاض منسوب تقدير الذات وتحقيقه.
هؤلاء المنتحرون – سواء كانوا منعمين أو عانوا الألم – إنما هم أشخاص أحسوا بالعدم وتمكن منهم، أشخاص فقدوا معنى الحياة، ولم يكن ثمة معنى لحياتهم، كفروا بالقيمة العليا في حياتهم، ولم يكن ثمة شيء بأسلوب مشكلة، فلا شغف ولا حب.
إن أقبح مرض يصيب الإنسان في هذه اللحظات بعض الفراغ الوجود، هو رثاء الذات، فهؤلاء قبل إقدامهم على الانتحار مرة بفترات مؤلمة رثوا فيها ذواتهم بطريقة مؤذية مميتة، ولفترات طويلة حتى وصلوا إلى هذا القرار (قرار الانتحار).
كيف تتحول المعاناة إلى سعادة:
العوامل المعينة على مواجهة المعاناة، نعم، سوف أكتب هنا، كيف تحول المعاناة ولحظات الألم إلى لحظات سعادة، لذا أتحدث عن تلك العوامل المعينة على مواجهة المعاناة، والتي بدورها تؤدي إلى السعادة.
متعة البقاء حيًا:
شعور المغامرة كان أحيانًا يأتي، ومشاعر البطولة، حيث كان يأتي في أحلك اللحظات حينما يواجه الجسم تحديًا، فإنهي فرز تلك المشاعر الدفاعية، أي تكون حيًا، ليس هذا فحسب وأبديًا.
الأبدية:
إن الإنسان كان أبي، إن هذه الفكرة كانت تسعدني، إن الجسم لا يشكل شيئًا يذكر إلى الأنساب، فالجسم مؤقتًا جدًا، بينما الوعي والروح خالدتان، وأن الموت ما هو إلا حد فاصل بين مرحلة حياتية صغيرة جدًا، ومرحلة حياتية أعظم، تمامًا مثل هذا الحد الفاصل بين حياة الجنين في بطن أمه وبين الحياة الدنيا.
الإنسان كان يعيش داخل الرحم الضيق حياة رغيدة فيها بعض المعاناة، كان يتصور – وهو في بطن أمه – أن هذا هو كل العالم لم يكن تلك الحياة الدنيا التي تنتظره، وحينما خرج من الرحم الضيق خرج وهو يبكي، فلازال معه وعيه رغم خروجه من عالم إلى آخر، ثم هو يبكي لماذا؟ يبكي بسبب ما تركه.. يبكي بسبب الحزن على ما فات من رحم ضيق ويبقى خوفًا مما هو آت فقد دخل إلى عالم أوسع لا يفهمه.
وكذلك حينما ينتقل الإنسان من الحياة الثانية إلى الحياة التالية من الحياة الدنيا إلى الحياة الأبدية:
إن هذه العقيدة الأبدية كانت بلسمًا أثناء معاناتي.
العدالة الكونية (الكاروا والدرما):
إن الكون مصنوع بطريقة عادلة حقة، فما من أحد يأخذ منه شيئًا بغير حق، فلاد أن يسلب منه وزيادة، كما أنه حينما تدعمه لابد أن يأتي ما أعطيت إليك ثانية.
سواء كنت تعتقد أن ثمة إله يحكمه أو أن هذا الإله قد خلقه ثم مات أو تركه وشأنه كما يصنع المخترع الآلة ويتركها وشأنها تدير نفسها بنفسها كالساعة.
أي كان اعتقادك سواء كان الكون أزليًا أو بدائيًا.. فإننا سنتفق جميعًا أن الكون قائم بالحق والعدل وأن المحسن فيه ينال جزاء إحسانه، وأن المسيء ينال جزاء إساءته.
كم كنت أتساءل حينما تمر بي لحظات من السعادة الغامرة: أن الذي تسبب في معاناتي لم يكن ينال عشر سعادتي، أنا أستعد وأن كان الظاهر أني في معاناة، أنا حر هنا والآن، وإن كنت في زنزانة، بينما هو يسعى في المدينة خائفًا يترقب، لا يدري من أين سيأتيه وبال إيذائه الذي نشره في الكون.
الحب:
في هذه اللحظات، لحظات المعاناة كنت أتخيل صورة محبوبتي، فكان الألم يزول أو يقل، إن طاق الحب كانت مضادة للمعاناة، كلما ارتفع منسوب الحب قل منسوب المعاناة، كنت اتأمل، وأغمض عيناي، وأبدأ في تخيل ملامحها. لقد كان ثمة هاجس يأتيني، تأمل ملامحها في خيالك، حتى لا تنسى ملامحها بسبب السجن.
أدركت أن تأمل الحب والمحبوب، والاستغراق في التأمل في ملامحها المشرفة وعينيها الميئة بالبراءة والتفاؤل، وأحيانًا اللوعة على غيابي: كل هذه المعاني كانت مضادة لآلامي ومعاناتي.
إن الإنسان المحب قد يستغرق في النظر إلى محبوبته حتى آخر لحظة في العمر.
كنت أستحضر كلمات زوجتي المحفزة والملهمة، وكنت أستحضر في خيالي لكي أرسل لها رسالة تطمئنها وأستقبل منها نفس الرسالة المطمئنة.
كان في السجن رجل من بلد عربي، توسم في الحكمة، لما دخل علينا كوارد جديد، وقال لقد أخذوني من مكان العمل، وزوجتي غريبة في هذا البلد، ولا يوجد ثمة رسول إليها يحمل رسالة.. ماذا افعل..
فأخبرته، لا تقلق، خذ أنفاس عميقة هادئة، نحو ثلاثية مرة، مسترخيًا، وغمض عينيك، متخيلاً، خروج، أي، لتحمل إلى أعماق الكون، حيث عتبات العرش، متصلاً بالقوة العظمى، وأخبر الخالق بحاجتك، قل له يا خالقي أنت رسولي إلى زوجتي، مسني ما تعلم، وأنت أرحم الراحمين، أنزل على قلبها فيضًا من الاطمئنان.
أخبرني في اليوم التالي، لقد فعلت، وأجد أن رسالتي وصلت لزوجتي، وكان شعورًا بالاطمئنان يعلو وجهه.
ذكريات الماضي:
لقد أخذت أحاول استرجاع ذكريات الماضي، وكان شيئًا عجيبًا، أن عملية الاسترجاع كانت سهلة، وتذكرت أمورًا لم أكن أتذكرها قبل محبسي، وذلك لأن حالة الحبس والوحدة والخلوة بالنفس تجعلك تسترجع الماضي بذكرياته وتفاصيله.
أدركت السبب أن الميت لحظة موته يمر أمامه شريط حياته، لأن لحظة الموت هي أعظم لحظة وعي يمر بها الإنسان، حيث تنقله إلى حياة أخرى تحتاج منه ملكات عظمى وبصر حديد، ووعي هائل.
أدركت أن الموت تجربة مثيرة، فنحن سوف نرحل من هذا العالم ومعنا ملفات أعمالنا، لا تلك الملفات والتفاسير المكذوبة التي يكتبها المخبرون السريون، ولكنها ملفات الأعمال والذكريات.
لقد كانت المعاناة تقل كلما عشنا هذه الذكريات في خيالنا، وكانت الأحاديث عن الذكريات ليس مسلية فحسب بل كانت عازلة للمعاناة وتبعدها عن أنفسنا شيئًا كثيرة.
أحدهم يحي أنه، في كل صباح يمر على مقهى ستار باكس، ولكن أتشاق إلى مذاق القهوة المفضلة، والثاني يذكر ذكرياته في صالة الألعاب الرياضية وجلسات التدليك الأسبوعية، والثالث يتحدث أنه في كل جمعة يذهب إلى خان خليلي حيث التحف ومقهى الفيشاوي.
والرابع يتحدث عن ذكرياته في رحلة بديعة إلى فرنسا، والخامس يسترجع ذكريات رحلة تجارية إلى الصين، والسادس يسترجع ذكرياته من الملهى الليلة في المهندسين.
أما هذا الذي يتحدث عن ذكرياته في الملاهي الليلية بالمهندسي، فكنت أجادله أني لم أكن أما الملاهي الليلية بالقاهرة عمومًا وأني أفضل الملهى الليلي الشهير ليتل بودا بالغردقة.
تلك الذكريات كانت تصنع غلافًا عازلاً حول المعاناة.
الفن: الجمال: الإبداع:
قبل المعاناة ربما لا أهتم بأغنية أو رسمة أو أي منتج إبداعي بسبب كثرة المشاغل والتشويش، ولكن في الحبس يتحسس الإنسان كل ما هو بديع أو إبداع، لو أن أحدهم أنشد يعني كنا نطلبها مرارًا، كان الواحد ينظر إلى الحائط، وصدمت حينما حدثني أحدهم أن صورة ذلك الطائر المرسومة على الحائط كانت تشعرني بالأمل، قلت إن هذا الطائر لا أجد ثمة رسمة لطائر. فأشار إلى جزء من الجدار فكانت نحتة كما لو كانت مسار لرسم منحني رمزي قد يعبر عن طائر، وكانت الرسمة هكذا.
كان يتأمل في هذا الخط الرمزي ويرى فيه جمال طائر.
حدثني آخر، لم أرى امرأة منذ ثلاث سنوات إلا في قصاصة من جريدة كانت ثفي سلة المهملات، والتي كانت تفتيش بعناية أحتفظ بصورة القصاصة طويلًا.
حدثني ثاني: لم أرى طفلاً منذ سنين، لقد رأيت طفلاً فظلت أتأمل فيه كثيرًا.
الثالث: كان يصنع من عجين الخبز قطعًا للشطرنج.
الرابع: كان يصنع من عبوة الجبن كوبًا ورقيًا.
هيدجر: الخوف إنما يكون من الكائنات يدعى القلق يكون من داخل داخل الذات.
المرح والدعابة:
كان أقل مرح يسعدني ويخفف من آلامي أن المرح في هذه اللحظات، كانت الدعابة (النكتة) أو إن كانت ساذجة تضحك ونتندر عليها وأوقن أن نفس الدعابة لو قيلت لنا قبل السجن ما كنت لأعيرها أي اهتمام.
لقد كانت زوجتي تشكو أني لا أضحك على نكاتها، وكانت بعد ذلك تثني أن أن لا نضحك على كل شيء وأي شيء فيه تندر.
قال فرانكل من محبسه: “إن الفتى التافه قد يسبب بهجة عارمة” (فرانكل: 720).
الأحلام:
تقول نظرية فرويد أن الكبت وتحقيق الرغبات هي أسباب واضحة لرمزية الأحلام.
وفي فترة معاناتي، كانت أحلامي كثيرة أكثر من فترات ما قبل الـ…. – وهذا التداعي الحر والخيالات الغنية التي يقدمها العقل الباطن أثناء النوم هي تحقيق واضح لرغبات المسجونين.
إن الأشخاص المحيطين كانت أحلامهم مظلمة وسوداوية وتنذر بطول حبسه، بينما الأشخاص المتفائلين كانت أحلامهم مبشرات بالمسرات.
إن أحلام ورؤى الأشخاص الذين فقدوا على حياتهم كانت أحلامهم هكذا أيضًا لا معنى لها.
أما هؤلاء الأشخاص الأقوياء الذين الأحلام كانت على أية حال تخفف من المعاناة. لقد رأى أحدهم النار تلتهم كل شيء إلا الذهب، فكان نذيرًا بالغًا.
ورأى الثاني: أنه خرج من المسجد، فكان بشارة بالخروج من الحبس.
أما رؤياتي فهي أكثر من أن تحصى هباء، فقد رأيتني أمسك بطائر على الشجرة فكان بشارة بأني أظفر بحريتي والطائر الحر إنما هو رمز للحرية.
رأيت أني أمشي في المدينة حرًا ثم أعود في نهاية اليوم إلى السجن حيث لا يشعر بي أحد، وهو كما يبدو رغبات النفس في الحرية، ومخاوفها من مغبة الهرب.
رأيت أمي أثناء سجني أن جدتها (واصفة) وهي جدتها لأبيها، رأتها دخلت عليها، بطرق فيه كبد بقرة، كما لو كانت أضحية مذبوحة، فقد كان الكبد طريًا طازجًا.
فكان تأويل رؤياها، أن فلذة كبدك ستعود رغم بعض الكبد والمشقة، وأن العودة قريبة جدًا.
رأيتُ أني خرجت من السجن، وأنا أتلهث وأبحث عن زوجتي في البيوت، فوجدتها في أحد بيوتي القديمة، وإذا بي أجدها منتقبة، وأقترب منها، وأكشف عنها نقابها بيدي لأراها باسمة، وهي بالأساس ليست محجبة، وضد فكرة النقاب.
ولكن الرؤية ههنا تؤكد معنى الصون والرعاية الربانية التي يرعاها الله بها.
كان العقل الباطن في سجني منجمًا للحلول الحكيمة، كان حقلاً واسع للأفكار.
وأحلام السجناء إنما تعبر عن رغباتهم في الحرية، وقد ضرب فرويد مثلاً: بما تحلم الأوزة؟
وأجاب: بالقمح. وهذا يلخص كامل نظرية أن الحلم تحقيق للأماني.
فالأحلام تعبر عن رغبات العقل الباطن وتكشف عن ذكائه الهائل.
إن الأحلام كما يقول كارل يودج “تقوم بدور التعويض، هذا الافتراض يعني أن الحلم ظاهرة نفسية عادية تنقل ردود الفعل اللاشعورية أو النوازع التلقائية إلى ساحة الشعور” [الإنسان ورموزه: 81].
التطلع للمستقبل
الأمل في المستقبل:
إن المريض يتعافى بتلك القوة أيضًا، حيث الرغبة الحثيقة في مستقبل أفضل تتحقق فيه الأمنيات.
وكذلك المعاناة عمومًا.
لقد تحملت تلك الآلام لأن ثمة رغبة قوية بداخلي – وهي حقيقية كل الحق – أن المستقبل أفضل والمرأة المحبة والطفلة الجميلة والعمل المحبب.
رأيت أحدهم أنهار من البكاء قائلاً، لقد أخذوا كل شيء، ثم علمتُ أنه صاحب شركة في العقارات، لقد انهارت الشركة تمامًا وتشرد الموظفين، وأخذ العملاء – كما توقع – يطالبون بالاستلام أو دفع مقدم حجزهم.
وبعد أيام رأيته منشرح الصدر.
قال: أنه يتطلع لانطلاقة جديدة لشركته على نطاق أوسع.
منافع المعاناة:
إن المعاناة: تعري النفس، وتمحصها، ثم هي تزكيها حتى تقل وتحقق أعظم اللذات.
1- تعرية النفس:
إن الحياة في…. كانت لتمزق كل الحُجب عن النفس البشرية، فتكون النفس عارية تمامًا ومتجردة، فيصير الإنسان في السجن على طبيعته وكامل حقيقته؛ لذا الشخص الخير تراه خيرًا في السجن، والشخص الشرير سيكون شريرًا كذلك بيد أن السجن يجعل هؤلاء عراة أمام أنفسهم وأمام غيرهم.
إن المعاناة تجعل الإنسان متجردًا أمام نفسه، واعيًا بعيوبها، مدركًا بكل خصائصها، عالمًا بنقاط ضعفه وقوته.
إن الاهتمامات القديمة تظهر في السجن، وكذلك الهوايات وحتى الإبداعات البسيطة، إن كانت هوايته الرسم طفولته، عادت إليه هوايته بارزة وقوية بعد انقطاع من مشاغل الحياة، حتى من كان يلعب الشطرنج في مراهقته ثم عزف عنه، إذا به يصنع من عجين الخبز قطعًا للشطرنج وينجح في صناعة كل قطع الرقعة من العجين.
إنها عملية تجريد إذن، وغوص في مكنونات النفس البشرية، من هجر الأدب والشعر عاد إليه، من كان في طفولته شيء عاد مرة أخرى يطفو على السطح، إنها عملية عميقة إذن، تجريد النفس، والغوص حتى أغوارها واكتشاف مكنوناتها وما فيها من جواهر.
2- تعافي النفس:
في أيام المعاناة تتعافى النفس، رأيت أحدهم في أول أيام حبسه، كما لو كان متلبسًا، يتخبطه الصداع والأرق، ويحك جلد، ويشد شعره، وهكذا على مدار ثلاثة أسابيع تقريبًا.
تقربت إليه وسانده، بدعم نفسي، ثم هو من تلقاء نفسه بدأ التعايش، وظهر على وجهه علامات الرضا.
لقد زال إدمان الخمور من جسمه، لقد كان معاقرًا للخمر، حتى الثمالة، ولم تم حبسه، ظهرت عليه هذه الأعراض السابقة، ولما مُنع عن الخمر هكذا قسرًا، ظهرت عليه أعراض الصداع، والحكة، والأرق، حتى تعافى تمامًا.
إن الحبس، ينقذ الإنسان من كل العادات المميتة، فهو إذن خير في ظاهره المعاناة.
وهكذا تستطيع أن تتقي شر كل عادة بحبس نفسك عنها، ولأن تحبس طواعية خير لك ألف مرة قسرًا.
وكذلك المدخنين، تركوا عادة التدخين رغمًا عنهم، ثم زال تعلقهم بالتبغ بتاتًا.
كان جالسًا أمامي، قال: لقد كنت مدخنًا ومن أنصار السيجار الكوبي لقد ذلل كل ذلك من قلبي. لقد تخلصت منها قسرًا صحيح، كذلك زال تعلقي بها.
3- تمحيص النفس:
المعاناة تجعلك تلمع كالذهن، فالتمحيص والصهر للمعدن على النار يجعل المعدن بعد صهره نقيًا، من كان ظالمًا لزوجته صار عادلاً معاه، من أكل شيئًا من حقوق الناس وتمكن من الاتصال بأهله، دفع لهم ما عليه من حقوق.
وحين تصير النفس نقية، من شوائبها، تتكشف لك الحقيقة الكبرى، أن كل إنسان كائن عظيم، مختلف، ومتميز، ولا يمكن مقارنته بأي إنسان آخر، كل إنسان بحد ذاته معجزة تتم على الأرض؛ لذا عليك أن تعتقد في نفسك الإعجاز في كل يوم.
4- نبل النفس (النضج النفسي):
المعاناة تجعلك تلمع في ذاتك، وفي أعماق نفسك من ناحية أو من ناحية أخرى تلمع في مجتمعك.
إنه يتحمل المعاناة من أجل: قيمة عظمى في حياتي، وعمل محبس وأشخاص يحبهم ويحبونه؛ لذا كانت معاناته نبلاً، وأعظم درجات النبل الإنساني أن تتألم من أجل من تحب ومن أجل ما تحب.
لذا فإن السجين الذي فقد ثقته بقيمه، وفقد ثقته بمستقبله، وأبى أن يتحمل المعاناة من أجل محبيه، فقد تماسكه المعنوي، وترك نفسه للتدهور والأفكار الانتحارية، وأصبح فريسة سهلة للاكتئاب والانهيار العقلي والجسمي إن العظمة والنبل، أن تكون جديرًا بهذه المعاناة.
إن الإنسان نبيل وقوي طالما يتمسك بفكرة نبيلة وقوية.
5- تحقيق الذات:
إن المعاناة جعلتني حرًا على كل المستويات فقد تخلصت من عاداتي السيئة، وانغمرت في سلام داخلي لذيذ، ثم إن تطلعاتي لمستقبلي العائلي والعاطفي والمهني بات حاضرًا، وحقيقيًا في ذهني.
إن تحقيق الذات على رأس الحاجات الإنسانية – وفق إبراهام ماسلوا – وهي حاجة تؤكد تحقيق الحاجات التي دونها، كالحاجة الفسيولوجية والأمن والحرية.
فوصول الإنسان لتحقيق ذاته، يجعله يصل لمعنى لحياته، ويبلغ ذروة الخبرات، وتحقيق الذات، والسعي بحثًا وراء معنى الحياة يطيل أمد الحياة فحسب بل عامل أساسي من عوامل المحافظة على الحياة، صحة جسدية، وصحة نفسية.
اللذة المتساوية:
قد يستشعر السجين للذة بمستوى أعلى من الحر، فأمور من اللذة قد يمس بها الشخص العادي خارج السجن، بشكل طبيعي، يستشعرها السجين بشكل أعمق.
ومثال ذلك: لذة: (توقف الألم – الامتناع عن تعاطي المسكرات – التخلص من البول – السرور المرتبط بأخذ حمام دافئ – السعادة من التواجد إلى حوار شخص محب – الابتهاج بقصة حب – لذة التوحد الروحي مع الكون).
خبرات نفسية
شفاء النفس من أثر المعاناة:
من المهم أن تكون لآلامنا معنى، فإذا كانت لها معنى، فإننا سنتعافى من أي تبعات لهذه المعاناة.
لقد كانت أيام سجني، خلوة روحانية، وورشة عمل علمية، وجدت فيها عقلاً مدبرًا حول علوم النفس والصحة النفسية، والإدارة.
كانت ورشة عمل تخدم هدفي الأعظم في الحياة، فكان كل يوم يمر بشغف وشفاء، حينما وجدنا شغفنا تعافت أنفسنا من الآلام، وإليك هذه الاستنتاجات من تجربة معاناتي في السجن.
1- ما نظن أننا نفتخر إليه، هو ما يحدد مصيرنا، فكانت الحرية هي أعظم قيمة بعد الحياة؛ لذا افتقارنا للحرية الجسدية أعطى مساحة عظمى للروح أن تسمو.
2- إن عقد النقص هي محرك السلوك كما يرى ألفريد أدلر؛ لذا لما حُرمنا الحرية الجسدية اتسعت مساحة الخروج (الروح).
3- إن الخوف نعمة، وهو ذلك الخوف الفطري الطبيعي والمعتدل، فقد جعله الله للإنسان لحماية الإنسان من المخاطر، ألا ترى أن هذا الخوف يجعلك تأخذ حذرك، ثق في فطرتك، صدق إحساسك.
4- إن الميكانيزمات الدفاعية التي خلقها الله في الإنسان، تظهر لما بما يتفق وكل موقف، وهي تظهر للإنسان من أجل حمايته في كل مرة، فالبلادة (البلادة) كما ذكر فرانكل (ص51) هي ميكانيزم ضروري في معسكر الاعتقال، وهو يقصد اللامبالاة، وعدم الاكتراث بأي شيء، لقد كانت هذه البلادة أو اللامبالاة، تخفف من التوتر، إلى درجة يصل فيها الإنسان إلى حالة من السلام الداخلي، بل التقهقر إلى أشكال من الحياة النفسية البدائية.
5- إن المهارات الإنسانية تتألق في المعاناة، وتظهر الابتكارات العجيبة في تخزين الممنوعات وتوريدها، وصناعة الأغراض الحياتية البسيطة بإبداع منقطع النظير، ففي السجن المركزي صنع لي أحد الزملاء دولابًا جميلاً من الورق الكرتون، إضافة إلى ظهور بارز للخطاطين والرسامين والحرفيين.
لقد كانت مهارات هؤلاء الناس المتميزة، سببًا من أسباب منع المعاناة، بل كانت تصنع علاقات مزدهرة.
6- لقد زادت لدي مهارة الاستماع، وقد كنت من قبل لا أطيق أسمع شرح أو تحليل لكتاب، فطول الوقت علمنا حسن الاستماع.
إن الناس خارج السجون، لا يسمعون بعضهم إلا قليلاً، بينما السجون، كل من يتكلم فهو مسموح، ويدعى لمواصلة الحديث.
ليس الكثيرون مستمعين جيدين حيث أوضحت البحوث أن نسبة 75% من التواصل اللفظي يتم تجاهلها أو إساءة فهمها أو نسيانها بسرعة، فقليل من الناس من يسمعون الآخرين بشكل كامل وجيد.
لقد تذوقت معنى الإنصات، وهناك فرق كبير بين مجرد السمع (السماع) والإنصات، إن الإنصات يتجاوز الفعل البيولوجي (الجسمي) ليشمل مشاركة نفسية ممتعة مع من نحاوره، فالإنصات متعة والاستماع عادة، والصمت عادة حسنة.
7- التفكير بصورة أكثر كفاءة:
وتنامت قدراتنا على حل المشاكل بصورة هائلة، فكثرة المساجين داخل الغرفة الضيقة جعلتهم مجبرون على حل المشكلات بطريقة مرضية للجميع إلى حد كبير، واعتبار المصلحة العامة، والهدوء، والنظام، والنظافة كلها كانت خطوط عريضة لحل أي مشكلة.
8- الممارسة اليومية لتقدير الذات:
ورغم المعاناة، وما يتعرض له السجين من إيذاء بدني، إلا أن السجين يدرك بشكل أكثر وعيًا تقديره لذاته، ويحدث هذا حينما يحيا وفقًا للعقل والمبادئ التي يتبناها، ومعنى الحياة الذي أدركه في تلك المعاناة.
9- أدركت أن الإنسان ليس دمية ([1]) تحركها الغرائز، ولا هو آلة تعمل بدافع المثير والاستجابة ([2])، إن الإنسان يحركه عقله وأدائه وتلك المبادئ والمثل التي تجعل لحياته معنى.
10- يرى كارل يونج أن الناس تختار بين طريقتين من طق الاستنتاج أو إصدار الأحكام وهما استخدام التفكير وهو استخدام عملية منطقية لا متحيزة، أو استخدام المشاعر لتحديد ما يعنيه بالنسبة لهم، فإصدار الأحكام على الآخرين وفق يونج بإحدى طريقتين فقط استخدام العقل أو المشاعر. ولكن في فترات المعاناة تعلمت طريقًا ثالثًا وهو اللاحكم من الأساس، وأني لست مضطرًا للحكم على شيء أو شخص كنت أرفع شعار “لا أحكم على أحد” إن هذه الحالة العقلية من اللاحكم، تجعل العقل هادئًا، وتكرس أيضًا لعقل متبلد، لا مبالٍ وهذا هو المطلوب.
لا نقصد بالتبلد معنى سلبيًا، بل هي حالة اللامبالاة، وعدم الاكتراث التي يستمتع بها الأشخاص الروحانيين.
11- التحرر من السجن الانفعالي الذي كنت أعيش فيه، لقد كانت حياتي مليئة بالتوتر، بسبب ما كنت أفكر فيه من أفكار سلبية.
وذلك لأنه ببساطة الأفكار تخلق الانفعالات، فالأفكار الجيدة تخلق انفعالات جيدة، فالانفعالات هي إفرازات طبيعية للأفكار (أفكاري تولد مشاعري.. حياتي تشكي من خلال تفكيري) [توكيد لفظي].
لذا لا غرامة، إن حالات الاكتئاب ما هي إلا نتيجة للتفكير السلبي غير المنطقي المستمرين.
إذا عرفنا كيف نولد انفعالات سلبية من بعض الأفكار السامة واللاعقلانية، فسنعرف سر التحرر من التعاسة.
لو تأملت حياة المكتئب – من خلال العلاج بخط الزمن مثلاً – لا ترى في حياته ما يدعى للاكتئاب، في حين تراه يتحدث عن حياة بائسة، وغارقًا في مشاعر الضحية.
12- التحرر من التعلق:
تحررت من التعلق بالأشياء التي أخيها، تعلمتُ أنه إذا أردنا أن نحب شيئًا فعلينا أن ندرك بأنه قد يضيع منا، إن فقدان من نحب، يجعل الفقدان ألمين، ألم الفقد نفسه، وألم التعلق، فهي تشبه عملية نزع الأظافر من الإصبع.
13- الإبداع قد يولد من رحم المعاناة، إذا كانت لها معنى، الإبداع والمعاناة صنوان، لقد رأيت الإبداع يتدفق من بين أصابع المعاناة، ألم تر أديسون الأصم الذي أذهل العالم باختراعاته، ومثاله كثيرون.
في السجن، ترى هذا المعنى جليًا.
14- هل البشر عقلانيون أم لا عقلانيين، لا أشك في كون إنسان عاقل، ولكن هل يتصرف حينئذ بسلوك عقلاني؟ هل من المنطق، أن يصنع الإنسان سجنًا لإنسان آخر، أن البشر عقلاء ولكن يرتكبون أفعالاً حمقاء وقائمة على الانفعالات، الأمر الذي أدى بالبشرية أن تعيش في حروب ودمار لفترات طويلة.
لذا فإن الانفعال الجمعي، قد يؤدي إلى كارثة إنسانية.
15- يتعرض السجين في أول أيام سجنه لأزمة هوية، في فترات المعاناة، يتحسس الجسين ميلاده الثاني والهوية الجديدة التي يحلم بها.
ثمة الم نفسي ورغبة في البحث عن الشفاء من خلال تجربة تحويلية كاملة تمنحنا وجه جديد لحياتنا.
لقد رأيت عددًا ممن أصيبوا بأزمة الهوية، أحدهم يتمنى أن لو كان على الدين المسيحي أو اليهودي وآخر يتمنى لو كان يحصل على أية جنسية حتى لو كانت جنسية دولة إسرائيل.
والحق أنها لم تكن لازمة في الحصول على ورقة رسمية بدين جديد أو جنسية جديدة، إن الأزمة نفسية بالأساس، أزمة فراغ وجودي، وعصاب جمعي.
16- العصاب الجماعي:
إن أزمة الهوية، لم تكن سوى ترجمة لعصاب جماعي معدي، وهو شكل من أشكال العدمية، وأن الوجود منعدم المعنى.
وبدأ السجين الضعيف يفكر، أن الإنسان لا شيء إلا نتيجة للظروف وأنه نتاج الوراثة والبيئة، فهو من العدم وإلى العدم. ومن هنا تأتي الأفكار الانتحارية التي تستعجل النتيجة العدمية لتتجاوز الآلام.
وهل المنتحر أو الانتحاري إلا نتيجة لهذا العصاب الجمعي.
17- الابتزاز العاطفي (الفردي والجمعي):
يمكن أن تكشف عن أي سلوك ابتزازي بقياسه على تهديد واحد فقط، ويحمل معنى واحد فقط “إذا لم تفعلوا ما أريدكم أن تفعلون فسوف أجعلكم تعانون”.
وهذا السلوك، قد تراه يوميًا من أشخاص عديدين، حتى حارس العقار أو موظف الشهر العقاري.
18- سبق وأن ذكرنا أن ميكنزمات الدفاع تظهر بشكل يتفق ما بيئة السجين، والنقطة التي أضعفها ههنا، أن آليات الدفاع تلك تُخلق بشكل مستمر مع استمرار المعاناة، وتزيد مع زيادة الألم، إننا نفعل أي شيء تقريبًا لدفع الألم عن أنفسنا.
19- نظرًا لحرمان السجين من الجنس (هذه النقطة بعنوان تحويل الطاقة الجنسية):
فلم يكن السجين يملأ هذا الفراغ الجنسي أو مواجهة هذه الطاقة الجنسية إلا من خلال تحويلها إلى مجال آخر مفيد كالرسم أو الكتابة أو القراءة وربما سلوك ديني كالصلاة والصيام.
إن الحرمان من الجنس ثم تحويل الطاقة الجنسية إلى عمل مبدع، أدى إلى نتائج مذهلة، فالحرمان من الجنس، صنع آلة دفاعية تخدم هدفي الأعظم في الحياة.
وهذا الكبت الجنسي، أخذ صورًا سلبية على بعض السجناء من التوتر والعدوانية، بينما أدى نفس الكبت بالآخرين إلى ساحات إبداعية عظيمة.
وذلك لأن الحرمان من الجنس قد يستنزف أقصى درجات الطاقة النفسية، وقد يفجر ما يماثلها من إبداع.
لذا أورد نابليون هيل في كتابة فكر وازداد ثراءً، أن “تحويل الطاقة الجنسية أحد خطوات الرجال الناجحين نحو جمع الثروات. قال: أن تحويل طاقة الجنس يعني تغيير دقة العقل من التركيز على أفكار التعبير الجسدي إلى أفكار ذات طبيعة مختلفة”.
20- السعادة المتساوية:
السعادة النفسية نسبية، وهي حالة ذهنية، بدليل أن فاقد البصر قد تراه سعيدًا ومنسجمًا مع ذاته بينما كثير من المبصرين سعداء.
وكذلك الإنسان داخل السجن، الأسير، أو الفقير أو أي إنسان تحسبه في معاناة ربما يكون أسعد ممن تسبب في معاناته، بل هذا هو الغالب، وهو المصير المحتوم وفق قانون الدراما الكوني.
لذا نخلص لنتيجة مهمة أن ما كنا نظن أنه سيصيبنا بالبؤس من البشر أو من بعض المواقف لا يصيبنا بالبؤس فعلاً.
21- الصداقة الزوجية:
بسبب انقطاع الحياة الجنسية للسجين، قد تحدث بعض التوترات بين الزوجين في الفترات الأولى للزيارات التي تتاح للزوجة، لزيارة زوجها بالسجن.
تتحول العلاقة الزوجية – من دون الجنس – إلى صداقة عميقة، وخلاصة تجربتي أن الزيجات السعيدة تقوم على صداقة قوية بين الزوجين بالأساس، فإذا أصاب أحدهما معاناة او أزمة أو سجن يمنع العلاقة الجنسية فإن هذه الصداقة تظل بنفس القوة، وتأخذ بُعدًا روحيًا عميقًا.
الصداقة بين الزوجين تجعل العلاقة أكثر مرحًا، وتقلل من العدوانية ومشاعر الغضب.
22- السجن العقلي:
تحدثنا في نقطة سابقة عن السجن الانفعالي، وههنا سجن آخر، حينما ينغلق العقل، فيظل حبيسًا لأفكاره المدمرة.
تعلمتُ أنه إذا زاد وعينا بردود أفعالنا الفطرية، وفهمنا أنماط سلوكنا، فسوف تصح حياتنا حرة فعلاً.
أن يظل العقل هادئًا، وأن نفحص ما يصل إليه من أفكار، أن نستمع لأصواتنا الداخلية.
وبسبب الانغلا العقلي، ثمة أناس مضوا عقودًا في السجون فداء أفكار كفروا بها بعد ذلك وقدموا مراجعات فكرية، واعتذارًا للسلطة عن تلك الأفكار.
خلص أفكارك من الشوائب، والمشاعر السامة، وحسن نوعية أفكارك دومًا.. سوف تتحرر شيئًا فشيئًا، ويقل خوفك.
23- التدين الزائف:
المؤمن الحقيقي يظهر وقت المعاناة، بينما ثمة أناس يمارسون سادية دينية على مخالفتهم وقد يستحلون أمتعتهم لمجرد أنهم مختلفون معهم في الرأي.
في السجون، يأتي أشخاص بسبب انتمائهم لجماعات دينية أو سياسية معينة، لذا ترى السجون السياسية خلية من البشر من مشارب مختلفة.
ومنهم الذين انخرطوا في جماعات سرية في لحظة خواء روحي أو فراغ وجودي، وهؤلاء تراهم كانوا لا يجدوا معنى لحياتهم، وقد انضموا إلى تلك الجماعات هاربين من مسؤولياتهم، كانوا يشعرون بتفاهة الحاضر وبؤسه، ويظهر هذا في وصفهم للمجتمع الذي يعيشون فيه + مجتمع فاسق (الإخوان)، أو مجتمع كافر (داعش).
وهؤلاء “الإخوان” أو “الدواعش” وغيرهما من تلك الجماعات المتطرفة التي تؤمن بقضية “مقدسة” على حد زعمهما، إنهم بقدر إيمانهم بتلك القضايا التي يتحدثون عنها، إلا أنك تراهم فقدوا إيمانهم بذواتهم، ويجذبون إليهم ـكثتلخك ككم لا يريدون تحمل المسؤولية – مسؤولية حياتهم.
بل يشعرون أن حياتهم لا قيمة لها إلى جوار حركته التي ينتمي لها، وإن هذه الجماعات لو كانت حقة، لما مسحت الإنسان إلى هذا المستوى، بحيث يكاد لا يشعر بأي تفرد أو قيمة لحياته؛ لذا يظهر منهم الانتحاري، الذي يقدم نفسه فداءً لتلك الجماعة التي ينتمي لها، وهي أعلى درجات العصبية الفكرية، وقاع الفراغ الوجودي، وهؤلاء الانتحاريون لا يقدمون على هذا السلوك الانتحاري إلا بعد أن تجردوا من كل شعور بالتفرد.
وقد وصل بهم الانغلاق العقلي أو السجن الذهني، أنهم يرون في مخالفيهم أنهم فساق (كما يرى الإخوان)، أو كفار (كما يرى الدواعش)، والغالبية بفكرون بطريقة دغماتية، فهم يرون أنهم على صواب وغيرهم على باطل، وأنهم أهل الإيمان الحقيقي وغيرهم منقوص الإيمان أو منعدم الإيمان، ويرون أنهم الطائفة الناجية من الجحيم وغيرهم هالك إلى النار الأبدية، وعلى أثر إغراقهم في الحكم على الآخرين، يفعلون أي شيء باسم النية النبيلة أو المقصد الديني.. قد يفعلون أي شيء، ويستخدمون في ذلك النصوص الدينية، وهو ما أسميه الذرائعية الدينية.
24- الشعور لا يتكرر مرتين:
وهذه قاعدة في علم النفس، وقد شرحه وليم جيمس في كتابه “مبادئ علم النفس”، “إن الإنسان لا يشعر بنفس الشعور مرتين في حياته، وأنه قد يقع في وهم تكرار نفس الشعور لديه”.
وهذه معجزة الإنسان، وأن مشاعر المعاناة لن تتكرر، بل هي تختلف في كل لحظة، ففي كل لحظة بصمة مختلفة للنفس البشرية، كما أن العالم متغير دائمًا، وأن المعاناة من المحال أن تدوم، وأن المفاهيم السائلة التي تحكم ملاك السجون، دائمًا في تغير مستمر.
وكثيرًا ما نجد أنفسنا عالقين في نفس الاختلافات الغريبة في نظريتنا لنفس الشيء، كم مرة، صادقت شخصًا ثم أصبحت تعاديه والعكس، وكذلك مفاهيم المجتمع السائلة.
ذلك بأن عقولنا تطورت، وتطور في كل عام مرة أو مرتين، نحو كثير من تلك المفاهيم، حتى نصل إلى درجة من التوازن مع كل معاناة.
25- التفرد الإنساني:
علمتني المعاناة، أن أكون متفردًا، وهي درجة من النضج الإنساني، وتعين أن يصبح الإنسان ما تؤهله له قدراته بصورة مستمرة، هنالك يكون قد وصل إلى تقدير ذاته، وعلى أعتاب تحقيق ذاته من خلال عمل إبداعي محبب. هنالك تكون النفس كاملة مطمئنة ليس للغرائز أو العقد تأثير سلبي عليها.
26- انقسام الذات: الذات المنفية:
يظن كثير من الناس أن الفصام إنما هو نوع واحد ذلك الفصام الذي قد تجاوز فيه المريض عقله الحد، وبلغ درجة من الهوس، وهو في شك عميق في وجوده.
ولكن ماذا عن هؤلاء العقلاء أو البشر الذين لديهم الدافع والاستعداد النفسي ولا يتورعون من قتل إنسان أو عدد من البشر بمجرد ضغطة زر، إنه نوع شائع من الفصام أشار إليه “أر. دي لينج” أنهم مصابون بالفصام ولكنهم ليسوا مرضى انفصام الشخصية.. وكلاهمما يبالغون – بدرجة أو بأخرى – في حماية أنفسهم المختبئة خلف طبقات من الشخصيات المزيفة غير الحقيقية؛ لذا تراهم يستخدمون الأسماء المزيفة.
وكلاهما لديه طبيعة مرعبة للتفاعل مع الآخرين بل ربما أعربهم معرفة شخص لهم معرفة قوية، أن يكشف ذلك الشخص حقيقتهم.
ولما كانوا يعتقدون أن العالم قد ينقص عليهم، في أي لحظة، فهم يمارسون عدوان مفاجئ على الآخرين.
ولدهم قدرة عجيبة على التحجر، أو التجمد، أو سلب الشخصية، أو جمود اللحظة، فيشعر أنه قد تحول إلى جحر، فقد يقتل أي إنسان بدم بارد.
وعندما ينخرطون بين الناس فلديهم قدرة عجيبة في التحول السريع، فيمتزجون ببيئاتهم بدرجة مرضية، فيظهر للناس كشخص طبيعي.
وهكذا يؤسسون نظامًا مزيفًا للذات يتعاملون من خلاله مع العالم، ولكن جعلهم هذا يؤدي إلى مزيد من اختبار ذواتهم الحقيقية؛ لذا فهم في حالة خوف دائم أن يكتشفوا.
وتراهم يحاولون السيطرة على كل تفاعل لهم مع الآخرين، وشديدي الحرص في التعامل الهاتفي، ولا تجد له أي أثر على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا يترك وراءه أي أثر يدل على شخصيته الحقيقية.
لذا يعيش في حالة من التوتر، والقلق، وشعور عميق باليأس، ومشاعر المؤامرة دائمًا مسيطر عليه، فهو يشعر أن ثمة من يخطط للإيقاع به، فهو يتأرجح بين المشاعر الطبيعية ومشاعر الهوس، على فترات متباينة.
وكلما شعر بالخطر أغرق في استخدام ذاته المزيفة، وارتدى القناع الذي يختبئ وراءه، بحيث يبدو طبيعيًا وإنسانيًا ومحبًا للدين والفضيلة والإنسانية.
28- خطورة/ خطر الطاعة العمياء:
في هذه المنظومة… تكتشف حقيقة نفيسة مفادها أن البشر لديهم توجه لإطاعة السلطة لا يستهدف فقط الحصول على تعزيز مالي، بل الحفاظ على الحياة أيضًا.
إن الإنسان قد يلحق الأذى بغيره في سبيل تفادي تهديد محتمل يهدد حياته أو استقراره. وهذه الحقيقة العلمية نراها في السجون والجماعات على حد سواء.
إن طبيعة هؤلاء الجنود سواء في منظومة السجون أو الجماعات تبين كيف وصلوا إلى هذا المستوى السادي، فكلاهما يراد به أن يكون في بيئة معزولة عن المجتمع العادي، وبعيدًا عن المقبول فيه وفق منظومة القيم المجتمعية، إنهم يتدربون على أساس أن خصمهم هو “العدو”، ويتشربون الولاء بشكل يومي، ويتم تضخيم الخوف من عصيان الأوامر، بالإضافة إلى تحطيم أية بقايا للذاتية أو التفرد.
29- العلاج بالحوار:
كثيرًا ما رأيت الحوار بين سجينين يؤدي إلى التشافي، كثيرًا ما يتفاعل معي أحد المساجين، يشكو إلي حزنه، ويبث إلي ما في نفسه من ألم، وبعد حوار محب، وطويل، يشعر فيه السجين عملية تفريغ ما بداخله من توتر، يخلص فيها إلى شعور جيد بالتشافي.
لقد كان الحوار المبني على الثقة والانفتاح والصراخ، وسيلة للتشافي، وتخفيف المعاناة.
وخلصت أن الحوار كوسية للتشافي كان يتوفر فيه:
- مثنى وفرادى، فهو بين شخصين فقط أو بين المرء وذاته.
- قائم على الإنصات الكامل، فإذا حصل أحدهما على إجابة غير مفهومة، لا يتظاهر أنه حل عليها.
- كل طرف يكون على طبيعته الحقيقية، لا يتجمل ولا يكذب.
- أن يكون هدف المتحاورين أن يكونوا ذواتهم، ويتحرروا من الأقنعة والأدوار المزيفة.
30- العصف الذهني:
وفترات الحوار الطويلة تلك، قد تؤتي بثمارها العقلية، بسبب الإبداع العقلي الناجم عن العصف الذهني الطويل.
وهنا تظهر عبقرية المخ البشري في إيجاده الدائم لأصحاب المشكلات، بل إنه يقاوم أعتى الأمراض العصبية، فالسحب يعطي مساحة كبرى للمخ يحلق بعيدًا، ويصل إلى مستويات إبداعية هائلة.
31- اختيارات أقل:
من المذهب أن سعادتنا قد تنتج عن تقليل اختيارتنا لا عن زيادتها، وتلك السعادة التي يشعر بها السجين تجعله يتحمل مستوى عال ومستمر من المعاناة.
السعـادة
في السجن أدركت أن السعادة في البساطة وأن ثمة أمورًا قد تبدو تافهة، ولكن تحقق سعادة عامرة، أدركت أن السعادة تنتج عن تقليل الاختيارات، لا عن زيادتها، وذلك لأن كثرة البدائل تؤدي إلى كثرة وقوع الأخطاء، وبالتالي فإن التبعات النفسية لهذه الأخطاء تكون أكبر.
وإليك قارئي، خبرات السعادة:
1- الشعور بالرضا:
إن مجرد استشعار الرضا، يحقق الحالة الذهنية للسعادة، فقد أوضحت بعض البحوث أن الرغبة الملحة في الزيادة تسبب نقص السعادة بوجه عام. وهؤلاء المفهومين يجمع غير النافعة أو حالة الازدياد في كل الكماليات.
الأشياء والأغراض الحياتية والكماليات الزائدة، هم أقل الناس تفاؤلاً؛ لذا كانت مشاعر الرضا نحو ما نملك أفضل من مشاعر النقص نحو ما لا نملك. ففي الحالة الأولى تمام الرضا والامتنان وهما جوهر السعادة.
ثم الامتنان لما نملك يؤدي إلى زيادته، بينما مشاعر السخط لما نفقده يؤدي إلى نقصه، وهذا ما اكد عليه النص القرآني: ]لئن شكرتم لأزيدنكم[.
2- مشاعر الامتنان نحو ما تملك:
لذا كانت مشاعر الامتنان نحو ما نملك سببًا من أسباب السعادة، بالإضافة إلى مشاعر الامتنان نحو الناس والأشياء، وقد كان تلاميذ عالم النفس مارتن سيليجمان يقضون ليلة امتنان، يشكرون فيها غيرهم على كل شيء لتحقيق السعادة.
3- البساطة:
فمن بات آمنًا ثفي سربه، في غرفة بسيطة تستره، كان أسعد ممن يمتلك القصور وهو مطارد، ولقد رأيت المساجين يتجادلون في مقاسات كل فرشة، وما خصص لهم من مكان النوم، والذي لا يتسع بالكاد له، فكانت الغرفة الواحدة بالسجن يسجن بها نحوًا من أربعين رجلاً، بينما يتملك الواحد منهم مساحات شاسعة من العقارات.
وهو شعور مؤلم، أن يمتلك الإنسان كل هذه المساحات من الأراضي والعقارات، وهو لا يكاد يكون له مكان في زنزانة، وتذكرت القبر الذي هو أوسع وأرحب من فرش السجن.
أي شيء أفضل إذن من بيت بسيط آمن، وإن الناس حينما أدخلوا في بيوتهم مزيد من الأجهزة الكهربائية والكماليات لم يرفع هذا السلوك من منسوب السعادة، فالسعادة في البساطة لا في التعقيد. كما أن كثرة التفاصيل تزيد من التعقيد، وكثرة البدائل تزيد من المسؤولية.
4- المقارنة بمن هو دونك:
فالمقارنة بالآخرين لها وجهان، مقارنة بمن هو أعلى منا (مقارنة صاعدة)، ومقارنة بمن هو دوننا (مقارنة هابطة)، أما المقارنة الأولى فهي تجعل الناس حسودين وعدوانيين، فكل طبقة تقارن نفسها بمن هو أعلى.
أما المقارنة بمن هو أقل، تجعلنا نشعر بالغبطة والرضا، ورفع الحالة المعنوية، ورفع مستوى السعادة؛ لذا كانت من ضمن توكيداتي الصباحية “أني ممتن وشاكر لما أملكه من النعيم”.
5- بين السعادة والمتعة:
هناك فرق بين السعادة والمتعة، فالسعادة دائمة والمتعة لحظية، السعادة لها معنى في الحياة وتشاركية بينما المتعة ليس لها معنى وأنانية ومثال ذلك العلاقة بين الزوجين المحبين سعادة، بينما استماع أحدهما على حساب آخر متعة:
فالأولى تعم فائدتها، بينما الثانية مؤذية.
وأقبح أنواع اللذائذ هي السادية، حيث قائمة على الاستمتاع بإيذاء الآخرين، وهؤلاء الساديون، والمدمنون غارقون في ثقب أسود هو الإدمان.
6- السعادة القائمة على تطوير الذات:
ومن أنواع المسرات تلك القائمة على تطوير مواضع القوة الذاتية والشخصية، كتطوير النفس في:
- فنون البيع.
- فنون الرياضة (الألعاب).
- فنون الحوار والتفاوض.
- التفكير الدقيق العلمي.
- البحث العلمي.
- وهكذا سلسلة لا نهائية وحالته لا تنتهي من تنمية مهارات الإنسان الجالبة للسعادة.
إن السعادة العظيمة لا تأتي من نزوات بل من سلسلة من الأشياء الصغيرة التي تتراص تباعًا؛ لذا تعتمد السعادة على جودة الأفكار ومهارة توظيفها.
7- التسامح من أجل السعادة:
صحيح أن تركيبة العقل البشري، لا تنسى ما لحق بها من أذى أو عدوان، إلا أن “انتصار الذات على الذات، يقوي عضلة التسامح والتي بدورها تكون سببًا في تحقيق السعادة”.
8- تجنب الثقب الأسود:
وعند البحث عن السعادة تجنب الثقب الأسود “الإدمان”، فكثير من البشر يبحثون عن السعادة من خلال بحر المتعة المؤذي كلذة شرب الكحول أو الجنس الآثم أو إدمان التدخين، وبالتالي سياقة البحث الخاطئ إلى “المتعة” التي تطورت وصارت عادة قهرية، وليس ثمة سعادة في أي عادة قهرية.
9- السعادة القائمة على تحقيق الذات:
فالسعي وراء تحقيق الذات، لذة من لذائذ الحياة، وهي أن تكون “للحياة معنى” وفق فرانكل، أو “التفرد” وفق كارل يونج، أو كما يسميه أبراهام ماسلو “تحقيق الذات”.
في كل مرحلة من مراحل حياتنا نجد قوتين جذابتين، قوة من داخل النفس للبحث عن ذواتنا، لتحقيق فهم وتفرد النفس.
وقوة أخرى من خارج النفس تدفعنا للخضوع لأفكار الآخرين، والوفاء بتوقعاتهم منا، فالقوة الأولى تقودنا نحو الإبداع والحرية والبحث عن معنى الحياة. والقوة الثانية تسوقنا كالأسرى نحو العادات الاجتماعية المؤذية، ومحو التفرد، والولاء لأفكار لا تعبر عن ضمائرنا.
ورغم أن الإنسان يتعرض بصفة مستمرة لهاتين القوتين، إلا أنه في كل مرة تنبع سعادته من الداخل.
وقد بلغت قوة النفس البشرية، في قدرتها على التوافق مع البيئات الجديدة، وإيجادها، ومع ذلك لم تكن هذه البيئات تشكل أي مصدر للسعادة، فالسعادة دومًا بداخلنا.
ورغم أن المدرسة السلوكية في علم النفس تؤكد أن البشر مخلوقات تحكمهم بيئاتهم، إلا أننا نقف دائمًا أمام الحقيقة الكبرى، الدامغة أن السعادة وسائر الخبرات الوجودية إنما هي تنبع من داخل النفس، وأنها قائمة على اختيارات الإنسان.
10- العقل والعوامل المكونة للسعادة:
وهي ست عوامل أساسية:
العامل الأول: الوفرة وتشمل الحرية المالية.
العامل الثاني: الروحانية وتشمل الاتصال الجيد بالمصدر الأعظم للكون.
العامل الثالث: التنوير، والشخص المستنير هو المنفتح على الآخرين، المتسامح.
العامل الرابع: الرضا: والشعور بالرضا يأتي من التركيز والامتنان على ما نملك وما في أيدينا من نعم.
العامل الخامس: الصحة: فالجسم السليم أقرب للسعادة منه للجسم المريض.
العامل السادس: العلاقات المزدهرة.
ثم إن هذه العوامل الست، إنما المدخل إليها من العقل؛ لذا يجب السيطرة على العقل لتحقيق السعادة.
لذا من لا يستطيع السيطرة على افكاره، فلن يكون سعيدًا، وذلك لأنه سينفقد سريعًا السيطرة على افعاله.
إن الحياة تتوافق مع الأفكار والصور التي يضعها الإنسان عنها سواء كانت سعيدة أو بائسة، فلماذا لا نتخيلكل يوم نحوًا من عشر دقائق مستقبلاً سعيدًا نريده.
11- العطف والرحمة:
من ضمن الطرق الأساسية للسعادة هي ممارسة سلوك العطف والرحمة بالآخرين إنك لتجد العاملين بهيئات الإغاثة من أسعد الناس، وأولئك الذين يطعمون الأطفال الجوعى في المجاعات.
حتى لو فقد الإنسان كل القيم، فسوف تبقى قيمة الرحمة والعطف، ولا أنسى هذا المثال، في لحظات الإعدام الجماعي، ترى أناسًا يؤثرون بعض البشر أنفاسًا فيتقدمون عليهم في الدور.
تلك المرأة التي كانت تُرجم أيام النبي محمد هي وعشيقها، وقد كان الإسلام يرجم الزاني حتى الموت، فأخذ عشيقها وهما يُرجمان، يقيها الحجارة بنفسه، فداءً لها، ومات كلاهما على أي حال.
ففي هذه اللحظات الصعبة، التي انتزع منه كل شيء، بقيت الرحمة في قلب هذا الرجل، فعن فقد خصلة الرحمة، فقد الإنسانية.
12- تطوير السعادة:
نعم، السعادة شيء يمكن تطويره، وزيادته، فهو علم يمكن دراسته وهي رياضة يمكن ممارستها، وهي تجربة يمكن معايشتها، كما يمكنه على الصعيد الشخصي، البحث المنهجي عن أسباب السعادة، وطرقها وصوتها، والوصول إليها كهدف أساسي في حياتك، ولا يقل أهمية عن قرارات أخرى مهمة في حياتك كقرار الزواج أو الهجرة.
13- الشغف:
وهو أن تعمل ما تحب وتكسب منه، ويعود عليك بالسعادة، إن من أمتع التجارب التي يمر بها الإنسان هي استغراقه في عمل معين، أو إبداع جميل، لدرجة أن ينسى نفسه، بينما يغوص في هذا العمل، لا يدري بما يجري حوله.
14- السعادة والصحة:
علاقة إيجابية، كل منهما يقوي الأخرى، فالسعادة تطيل العمر، والصحة من أسباب السعادة.
ذكر ريتشارد ليارد دراسة مذهلة على رهبان إحدى الأديرة (ص35) فالراهبات التي كتبن سيرة ذاتية متفائلة تكون أطول عمرًا ممن كتبن سيرة ذاتية تعيسة.
وفي دراسة أجريت على المشاهير الذين رُشحوا لجائزة الأوسكار وقد أن الذين فازوا بالأوسكار عاشوا عمرًا أطول ممن رُشحوا ولم يحصوا عليها.
وهذا يؤكد نظريتنا، أن الذين حققوا ذواتهم، وعاشوا لغاية سامية، واكتشفوا معنى حياتهم، يعيشون عمرًا أطول ممن لم يحققوا ذواتهم، ولم يعيشوا لرسالة.
والعوامل التي تطيل العمر أربعة:
أولاً: العلاقات المزدهرة، وخاصة مع الأقارب، وقد قال النبي محمد (من أراد أن ينسئ له في عمره، فيصل رحمه).
ثانيًا: العطاء، فالكون، يدعم كل معطي ويمده بالقوة.
ثالثًا: التسامح، فسلامة الصدر، والسلام الداخلي، أصل الصحة النفسية.
رابعًا: تحقيق الذات، أو التفرد أو الهدف الأسمى للحياة والذي يعيش له الإنسان.
15- خطوات عملية نحو السعادة:
وسوف أذكر الخطوات التي يستطيع القيام بها السجين والحر على حد سواء، وقد قمت بها جميعًا في سجني؛ لذا هي حجة على كل حر:
أولاً: قبول الذات، وهو في النفس واستحضار مشاعر الانسجام مع الذات. قد كانت تدخل علينا “مكرونة الانسجام” وهو مطعم كشري، فيذكرني هذا المعنى، وكنت أردد التوكيد “أحب وأقبل ذاتي.. أحب وأسامح نفسي”.
ثانيًا: الإيمان، بالمصدر، والخالق، والصانع، ومنشئ الكون من العدم، فهذا الكون لم يكن عشيًا، وبالتالي كل ما تحب فيه من معاناة إنما هي لحكمة حتمًا هي لصالحنا “من آمن بالله اطمئن قلبه”.
ثالثًا: التأمل، كانت طريقة التأمل، والدخول في استرخاء طويل تجربة ملهمة، وجاذبة للسعادة.
رابعًا: وعي اللحظة، وهي فلسفة “الآن”، وتوقف التفكير في أحزان الماضي ومخاوف المستقبل، فالإنسان السعيد يعيش اللحظة الراهنة، ويستمتع في السجن، بتأمل جمال زهرة أو لذة أكلة عن جوع، أو حمام دافئ أو محاورة محبة أو اللعب بالشطرنج أو قراءة كتاب.
خامسًا: التوجه العقلي:
وهو أن يكون العقل منتبهًا نحو ما هو إيجابي، فيسمع ما هو كلام إيجابي، ويتحدث الكلام المتفائل، ويفكر في أفكار جيدة ولا يسمح بأي مشاعر سلبية أن تتسلل إلى أسوار نفسه.
سادسًا: الروحانيات:
يقول رالف والدو إيمرسون “العظماء هم من يرون أن القوة الروحية أمضى من القوة المادية، وأصحاب هذه الرؤى هم من يحكمون العالم”.
كان أي طقس روحي، وسيلة محببة لإسعاد النفس، وعلى رأس هذه الطقوس الصلاة، وكانت معينة على الصبر، وجاذبة للسعادة.
سابعًا: ممارسة أعمال إبداعية:
والإبداع إما أن يكون وليد المعاناة أو وليد السعادة، وكلا الوليدين حسن، وداعم لمعنى الحياة، والإبداع يخفف من التوتر، ويدعم النفس في تطلعها للمستقبل، الإبداع يُحرر الإنسان.
ثامنًا: متعة البساطة:
فليس في السجن سوى فرشة ينام عليها السجين، وحقيبتان: حقيبة لملابسه، وحقيبة لبعض أغراضه، من كتاب او شاي وقهوة، بينما أكتب هذه السطور على ظهر كترونة أستند عليها.
تاسعًا: الإنصاف:
والممارسة اللحظية للإنصاف والعدالة سواء مع النفس أو الغير يحقق السعادة، وهذه العادة جعلتني أعيش بسعادة وأمان داخل السجن، لا تحكم ولا تنحاز لأي شيء أو لأي أحد فقط كن منصفًا.
عاشرًا: الطعام الهجين:
فكنت أتناول وجبتين فقط ملتزمًا بالصيام المتقطع، فعلى مدار النهار لا أتناول شيء سوى القهوة والشاي من دون سعرات، مع تأمل للصحة، ومحاولة الامتنان في كل لقمة أو تذكر توكيد إيجابي عند كل شربة ماء، وكنت أتحدث إلى شربة الماء بكلمات إيجابية ككلمات “الحرية والوفرة والسعادة، بحيث أشرب الماء، وتملأ جسمي هذه المعاني.
كذلك استحضار نية إيجابية في كل وجبة بحيث تدخل الوجبة إلى الجسم، وتغذي النفس بما تحمله من معنى. أنا آكل من أجل حريتي، وإبداعي، لتدفق إلى الوفرة من كل مكان، ليجتمع شملي ببناتي، إن طعامي يعزز تركيزي ويبني الروح والجسد معًا.
أما الشمس التي لا أراها، فكنت أستعيض عنها بتناول فيتامين (D) مع الاستيكير، بالإضافة إلى تأمل الشمس، وأتخيل جمالها، وأستشعر أشعتها تتدفق إلى حياتي تملأها بالمعاني التي أريد.