
خطة السعادة والنجاح
September 2, 2025
حياتـك النفسيـة
September 3, 2025الســـلام الدائـــم
محمـد مسعـد ياقـوت
حفظ الله مصر وشعبها ورئيسها الرئيس
عبد الفتاح السيسي
السلام الدائم واتحاد الأديان
1- الأرض ليست حكرًا لأحد (الأرض للبشرية) الأرض للأنام:
الأرض وهي مكون ضئيل جدًا في هذا الكون – لم تكن حكرًا لأحد أو دولة أو نظام أو دين، وقد وصف القرآن هذه الحقيقة بقوله: ] وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ [، فهي لكل من عليها، وقد كان الناس، وكانت البشرية “أمة واحدة” وهم كلهم من أب واحد، وكلهم لآدم، وآدم من تراب، هذه الأرض.
وكذلك كل موارد الأرض، كما أنها خُلقت للجميع بوفرة وحب، فهي كذلك متاحة للإنسانية حتى الفناء الأعظم. وكذلك الهواء موجود في كل مكان له، والماء والسحاب والرياح والنار، كل هذه الموارد الطبيعية تتواجد حيث يتواجد الإنسان بغض النظر عن لونه أو معتقده ] خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [.
حينما تكون الأرض للأنام، تكون إذن آمنة، ودار سلام، ومستقر، ومتاع.
2- الطبيعة متنوعة ومتغيرة:
كل شيء من الظواهر التي يراها الإنسان متنوعة ومتغيرة بما في ذلك الموارد، ولكن الشيء الثابت أنها متاحة للإنسانية كلها، لم يظهر دين أو شرع أو مذهب أنها خالصة لإتباعه من دون البشر.
النهر المشقوق في الأرض، يرتوي منه الأبيض والأسود، من أوغندا من أقصى الجنوب وحتى رشيد في أقصى الشمال، نؤكد هذه الحقيقة.
وسواء كان العنصر الأساسي للطبيعة: الماء أو النار، أو الذرة أو انفجار كوني، شاء الإنسان أو أبى، فإن التعايش معًا ضرورة على هذا الكوكب غير المستقر والمتنوع في كل شيء.
وكل تلك الزروع والثمار، التي تسقى بماء واحد، وأخرج الله به نبات كل شيء، والحبوب والثمار والنخيل، وسائر النباتات، لم يزعم أحد أنها خالصة له من دون الآخرين.
3- الإله واحد:
وتلك عقيدة أغلب البشر، ومن ثم أهل الجروب والصراع في تناقض، أنه خالق واحد، ويحب من مخلوقاته أن تكون في وحدة من محبته.
مجمل عقيدة البشر، أن للسكون ربًا واحدًا، أزليًا، ثابتًا، يسمع ويرى، ويسيطر على الكون بقوة إرادته، ويقول للدُمى كن فيكون.
إن هذه العقيدة في نفوس كل البشر، سواء أعلنوها أو أخفوها ومنهم من يزعم أنه خلق الكون وتركه وشأنه، ولكن على أي حال نخلص إلى الحقيقة الكبرى، طالما أن المصدر واحد فلابد أن نكون واحدًا “نحن واحد” وفي القرآن ]وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ [.
كل مكان في هذا الكون، هو واجده، وهو مسبب كل ومحرك كل متحرك، ويسوق الكائنات إلى هذا المكان بإرادته، ورغم أن الكائنات متفاوتة في الخصائص، فإنها نتعايش، ولذلك خلقهم، وكل شيء خلقه لغاية نبيلة، ولم يخلق بشرًا من أجل أن يقتتلوا، ولو خلق مخلوقين من أجل أن يقتل أحدهما الآخر، فهذا عين العبثية، وهي تنتفي بحقه – جل وعلا-.
4- الحق في الوجود:
لا يمكن مناقشة أقوام على الأرض من سنين، عاشوا وتوالدوا، وتنازعهم حقهم في الوجود، ونزعم أن أجدادهم أخذوا هذه الأرض خلسة، أو في غفوة من الزمن.
ومن الغير المعقول إنكار وجود ما هو موجود، ولكون البشرية في حال تطور تقني، وانفتاح عقلي على الآخر، فسوف يجدون أنفسهم أمام التعايش والسلام الدائم لا محالة وإلا هلكوا جميعًا بما صنعوا، فحجم التقدم التقني والنووي، كفيل بتدمير البشرية، هنالك سيدرك القادة حقيقة التعايش كضرورة.
والنفس الإنسانية بغض النظر عن العقيدة، والإنسان عمومًا بغض النظر عن الدين، الذي في الغالب ولد به وفرض عليه كإرث، فإن الإنسان يميل إلى التعايش مع أخيه الإنسان، فهو كائن اجتماعي، وتلك فطرته.
ولا يمكن أن يكون مغزى الحياة هو الصراع، لا يمكن، وإلا هلكت البشرية منذ زمن، إن الإرادة الحرة للإنسان تجعله يقرر أن يعيش مع الآخر لا أن يقتله. وعلى أي حالٍ، فإن الخيارات التي يتخذها الإنسان، تحدد مصيره على الأرض.
5- القياس المنطقي:
وبالقياس المنطقي فإن لكل طائفة حق في الوجود والوفرة والموارد وبالقياس المنطقي الذي هو شكل من أشكال الاستدلال الاستنتاجي نضرب الأمثال للناس:
- كل اليهود بشر.
- كل البشر لهم الحق في الوجود.
- إذن كل اليهود لهم الحق في الوجود.
6- الفضيلة:
وهي البر، وهي جماع الأخلاق والخير، وهي بدوره تقود الإنسان أن يكشف معنى حياته، ومن ثم السعادة، والبشر مخلوقات تبحث عن السعادة، وهذه السعادة التي لا تتحصل إلا بالفضيلة. وأجمع الأنبياء والفلاسفة أن الفضيلة والسعادة تقتضي التعايش السلمي بين البشر، لأن في التعايش سلام، وفي الصراع بؤس.
لم تقم دعوة لنبي إلا بمكارم الأخلاق، ولا لفيلسوف إلا بمعنى للحياة.
7- العقيدة:
العقيدة الحقة، هي التي تجمع الإنسانية ولا تفرق بين بني البشر، وهي كلمة سواء، وحبل وصال بين الرب والبشر فهو ممدود بينهم.
والعقيدة والحقيقة والمبررات، تؤكد أن التعايش هو الأصل، فهم من أب واحد، وأخوين قابيل وهابيل، وبث منهما شعوبًا وقبائل. ولو شاء لخلقهم من أكثر من أب، ولكنه أب واحد. وفي القرآن ]إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[ [البقرة: 62].
واليهود والمسلمون والمسيحيون، يعتقدون في إله واحد، وأن الأرض المقدسة التي كتب الله لعباده، جعلها قبلة لكل الأديان، فلكل دين منسكًا بهذه الأرض المقدسة، فلم اجتمعت عقيدة الجميع على قدسية المكان، وجب عليهم أن يتضامنوا.
8- التعاون من أجل البقاء:
وهي معضلة وجودية، فإذا تعاون مجموعة من الأشخاص بعقلانية في موارد الأرض، فسوف تفيض ويبقوا، وإذا تصرفوا بطريقة غير عقلانية فسوف تنقص، ويهلكوا، ومثال ذلك: كما في الأسطورة الإسلامية: ينحسر العراق عن جبل من ذهب، فإذا اقتتلوا عليه تفانوا جميعًا، بينما إذا تصالحوا على توزيع الثروة أفادوا جميعًا ونجوا.
وهذه النظرية في كل مشاع، مثال الأبقار التي ترعى في مشاع من المرعى، وذلك إذا وصل المرعى العام (المشاع) إلى مستوى معين، فسوف يصير غير صالح للرعي. ومن خلال التصرف بعقلانية، ويكون لكل قطيع نوبة فسوف يطعم الجميع. وفي هذا قال القرآن ] لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [ بينما انفراد قطيع دون آخر بالمرعى يعود بالسلب عليهم جميعًا.
وصيد الأسماك خير مثال، وقد رأيت في مدينة الغردقة ثمة يوم لا صيد فيه كأصحاب السبت، وهذا يعطي فرصة للأسماك أن تطمئن وتتكاثر والأرباح العائدة بسبب يوم التوقف أكثر وأوفر. إنهم يدركون أن التعاون والعمل ضد المصلحة المنفردة، فيما يتعلق بالموارد يجعل من صناعة صيد السمك أوفر حظًا.
ومثال ذلك في الواقع الأرض المقدسة، وفلسطين عمومًا، في مشاع عام لكل أصحاب الديانات، متاحة لهم جميعًا في تعاون ووداد، فإذا اقتتلوا عليها، لم يحج إليها أحد آمن، وإذا تعاونوا كان الخير والأمان لكل زائر.
9- المسئولية الأخلاقية:
البشر مسئولون أخلاقيًا عن تصرفاتهم نحو الأرض وذلك لأنهم جميعًا أحرار. وكلما تعاظمت المسئولية الأخلاقية تعاظمت الحرية ومعنى الإنسانية، ورحمة الكبير بالصغير واجب أخلاقي، وكذلك الأمم. إن التراحم بين الأمم يعلي من قيم الإنسانية.
ما أود قوله: أن المسئولية الأخلاقية كما أنها فردية فهي أممية، واجبة بين الأمم. لذلك يلجئ الإنسان المعاصر لسن قوانين لحقوق الإنسان وحقوق الجرحى والأسرى، كمحاولة لتطبيق مقتضيات هذه المسئولية.
لذا أوصي بحرية تناقل العلوم والفنون بين الشعوب، فهذا من شأنه رفع الحسب الأخلاقي بينهم، فضلاً عن كون الفنون تطهر السلوك الإنساني.
وحينما تتواصل الشعوب فيما بينها، وتتزاوج وتتصاهر تخف حدة الحكومات، كلما تواصل البشر اجتماعيًا وثقافيًا تتطور عقولهم وتسمو نفوسهم ويكونوا أقرب إلى الأمة الواحدة وهذا هو الأصل.
10- علة الوجود:
وهي سبب وجود الإنسان على الأرض، والغاية من وجوده، ووفق معظم الأديان والفلسفات، وُجد الإنسان من أجل إعمار الأرض وتطهير النفس، وعبادة الخالق، وقد أوضح القرآن تلك الحقائق ]اسْتَعْمَرَكُمْ[ ، ] هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [، وقال: ] وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [.
فهو أنشأ الإنسان من الأرض، واستعمره فيها، وطالبه بالعمل الصالح، والتوجه إليه بالعبادة، وقد تخوفت الملائكة من انحراف الإنسان من علة خلقه النبيلة وقالت ] أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [فكان الفساد وسفك الدم انحرافًا عن علة الوجود.
وكان التعايش بين بني البشر وسيلة من وسائل تحقيق الغاية من وجوده.
ويتحتم على إتباع الديانات ويكون من الواجب عليهم أن يتحدوا، وألا يتنازعوا ذلك التنازع الذي ينحرف بالإنسان من غايته.
11- هل الأرض تبقى لأحد؟
على مدار التاريخ الإنساني، لم تبق الأرض لفرد أو أمة من الأمم، بل الأرض باقية، ويتهالك الناس عليها، صالحهم وطالحهم، وقد يقاتل الحاكم دهرًا ويموت من أجل ضم رقعة من الأرض، وأتي بنوه ويفرطون في ذلك كما في تاريخ الممالك.
وقد كانت أمة عربية كاملة على أرض الأندلس، فلم يبقى منهم شيء، ومن قبل دول فارس، وروما أن تقاتل البشر على الأرض لا يجدي، ويموتون، وهي لا تبقى لأحد، فقد جعلها الخالق لكل البشر.
وتفانت الأمم القديمة على أرض فلسطين، وانتقلت من أمة لأمة، والملاحظ أن إتباع الديانات الإبراهيمية كل لديه نص ديني يعده أن هذه الأرض له. كما في القرآن حينما قال الله على لسان موسى لليهود ] ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [، ومن ثم أتباع موسى وهم في الواقع الأديان الثلاثة، فكلهم يرى أنهم أولى بموسى، وبالتالي سيرى هذه الآية أو النص الديني ينطبق عليه.
إن موسى الذي يجله اليهود والمسيحيون والمسلمون يقول: ] ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [؛ لذا فإن العقيدة اليهودية ترى في البقاء بهذه الأرض جزء من الإيمان، وامتثال لأمر النهي، بل إن رفضهم الاستمساك بالأرض المقدسة كوطن ومهجر لهم، يقتضي العقاب الإلهي، حيث لما رفضوا دخولها أول مرة، وقالوا لموسى إن فيها قومًا جبارين، وإنا لن ندخلها أبدًا ماداموا فيها.
حينما رفضوا دخولها، بهذه العلة المنطقية، كيف ندخلها نحن المهاجرون، وفيها أقوام جبابرة لا يرحبون بدخولنا، حينما رفضوا عاقبهم بالتيه والتخبط في متاهات الجبال في سيناء، وقال أنها محرمة عليهم، إذن – أي الأرض المقدسة، وعقابًا لهم، دعهم هكذا يتيهون في الأرض.
لاحظ أن هذا الاعتقاد لا يدين به اليهود فحسب، بل يدين به كل من اتبع موسى النبي المصري الإسرائيلي. ومن هنا ينبني منطق الاتحاد من حيث ترى الاختلاف، وينبني منطق الحوار من حيث ترى الصراع.
وأن المنطق الديني الذي ينص أنها أرض مقدسة، فهي إذن محمية ربانية، وأرض للعبادة والحج والتأمل والسياحة الروحية، لا فرق بين إنسان وآخر طالبًا دخل الأرض معظمها لها. لذا يجب أن تكون الأرض المقدسة محايدة على الدوام، وتحت سلطة محايدة، تخدم الزائرين والمقيمين بحياد.
وفي كل حقبة تاريخية، من جعل هذه الأرض المباركة متاحة للجميع، حيث ممارسة النسك والعبادة، بينما تقتضي به الضرورة الدينية، كان أكثر استقرارًا وقرارًا، وهي كذلك يجب أن تكون مسجدًا للجميع، كما كانت أول مرة، وقال القرآن لحكام هذه الأرض المباركة في كل زمان: ] إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [.
فإذا انحرفت السلطة من العدالة، وجعلت الأرض المباركة حكرًا لدين دون آخر، وحولوا هذه البقعة من أرض تتلاقى فيها الأديان ويتعبد أهلها بكل حب، إلى أرض صراع وعطلوا مظاهر الروحانيات والعبادة، وكان الوعيد القرآني ] بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا [.
إن هذه النتيجة – وفق النص القرآني – تكون حينما تنحرف السلطة الحاكمة للأرض المقدسة من كونها أرضًا ومسجدًا للجميع إلى أرض خام للصراع، وهي لم تكن مجرد أرض، بل هي وقف، ومحمية دينية وروحية للإنسانية جمعاء.
12- هل أخطأ عبد الحميد:
نعم أخطأ، فحينما جاءوه وفد يهود، بقيادة الصحفي هيرتزل يشكو للسلطان، ما يتعرض له اليهود، من اضطهاد في أوروبا، ولم نجد لنا سندًا سوى السلطان الأعظم، فهو راعى أهل الذمة، وأمير المؤمنين، وأن اليهود لا مانع عندها من دفع الجزية لقاء أن يخصص لها السلطان مكانًا بفلسطين.
رغم ما طلبه اليهود من عبد الحميد على هذا النحو لم يكن فيه ثمة مشكلة سياسية أو دينية، فما الذي دفعه أن يرفض طلب اليهود، لماذا عده رشوة، ولم يعتبره جزية، لماذا رد من طرق بابه، وهم من حملة المستضعفين وكان واجبًا عليه إيوائهم، ولم تكن ثمة مشكلة أن يحنو بهم، وأن يكونوا من جملة رعاياه.
لو كان الأمر كما في أحد السياقات، التاريخية، أنهم أرادوا شراء أرض فلسطين، وهذا إن كان خارج المنطق، ولا يملكه يهود ولا عبد الحميد، ومن هذا الذي يستطيع أن يدفع ثمن بلد، لو كان هذا هو السياق حقًا، كان يستطيع عبد الحميد، أن يكسبهم ويأويهم، وأن يكون اليهود في صفه بدلاً من اتخاذهم أعداء.
وماذا على أي حاكم عادل، وحكيم، يأتيه طائفة من رعاياه، من أقلية دينية، فيخصص لهم أرضًا تأويهم، هل يستطيع أحد أن يسرق الأرض، ويذهب بها معه إلى العالم الآخر، وماذا عليه أن يبرهم ويقسط إليهم، ولكن يبدو أن الحالة العامة في أوروبا كانت ضد اليهود، فأراد السلطان أن ينحو طريقهم.
ثم إن هذا المال الذي كان سيذهب إلى خزانة الدولة العثمانية، اتجه اتجاهًا آخر مناهضًا لها، وتحالف اليهود، مع المحتل الإنجليزي لئن ناصرناكم، وانتصرتم، فلنا وعد منكم بوطن في فلسطين، وكان وعد بلفور.
13- المرجعية التاريخية (الحالية وعدم الاختزال):
هل التاريخ يُعد مرجعًا لادعاء حق ما كان في يد الأجداد؟
مثال حينما يدخل العرب الآن إلى إسبانيا مطالبين السكن والمأوى بزعم أنها أرض الأجداد.
ومثال اليهود يرون في فلسطين أرض الأجداد من لدن موسى، التي فرضها عليهم وطنًا، وحتى زكريا ويحيى، وداود وسليمان، وسائر أنبياء بني إسرائيل (لا تنس أن هؤلاء الأنبياء، هم أنبياء الأديان السارية كلها، والمسلمون والمسيحيون ينتسبون إليهم).
وكذلك المسلمون الحاليون والعرب، يقولون إن إسرائيل هي دولة الأجداد، وبالتالي فإن “المرجعية التاريخية” صارت ضمن المفاهيم السائلة التي يستخدمها كل فريق في كل عصر.
فمفهوم “أرض الأجداد” يستخدمه الآن كل فريق. وعلاج هذا المفهوم السائل هو “الحالية” وهو مفهوم فلسفي يشبه إلى حد كبير فكرة الحاكم المتغلب – في الديانة الإسلامية – والمقصود “بالحالية” أن الحاضر وحده هو الزمن الحقيقي، وأنه لا شيء موجود سوى تلك الموجود حاليًا، وخاصة المعطيات الحضارية؛ فالموجود الآن دولة إسرائيل، دولة قائمة قوية، وفلسطين كانت دولة في الماضي، وبالأحرى كانت ولاية تركية قبل ذلك.
والمنطق الفلسفي – والديني أيضًا – يقول إن الديناصورات كانت موجودة بالفعل في الماضي، وبالتالي من الخطأ أن نظل نزعم أنها موجودة في الحاضر “فهي ليست موجودة فعلاً”. وهل لو انتفض الديناصور حيًا كافتراض غير عقلاني، أو زعم أي كائن منتسب إليه أو من سلالته، هل يستحق ما فرط من الأول، أو ضاع منه أو آل الحكم إلى آخرين.
وكذلك الأمر بالنسبة للمستقبل، لو عرفنا أن ثمة دولة ثالثة بعد فلسطين وإسرائيل ستقوم بهذا المكان بعد 100 سنة، هل هذا يعني أنها موجودة؟
نخلص إلى أن مناقشة الأمور الماضية والمستقبلة لا يجدي في رفض الحاضر، فالحاضر هو الواقع وهو الزمن.
وهذا الأمر ينسحب على الأفعال الماضية، والأفعال المستقبلية، فكل طرف، ارتكب في حق الآخر جُرمًا، واختلط الحق، والغلبة كانت لأحدهما، وأن الضرر وسفك الدماء المترتب على إزالته أكثر من الإبقاء عليه، وأن التصالح والسلام الدائم، وإتاحة الأرض للجميع فيه حفظ للأنفس والأديان والأموال والأعراض.
ثم إن فريقًا من أهل الكاب، هم كتلة حرجة في كل زمان، يحبون المسلمين، ويحبون الآخر، وقد قال فيهم القرآن – وهم موجودون إلى الأبد – ]مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ[.
إن القرآن في هذه النصوص لا يتحدث عن مسلمين، بل يتحدث عن يهود. وتلك الأوصاف البليغة، تؤكد الرباط الروحي بين المؤمنين، في كل زمان، وهذا النص القرآني يدحض داء التعميم، فترى بعض الناس، يصفون اليهود – أو المسلمين- بأوصاف عامة وحتمية، وهذا ينافي العقل والنقل.
إن “حالية” الوضع الإسرائيلي الآن، يقودنا إلى سؤال آخر. أيهما على حق الواقع “إسرائيل” أو الماضي “فلسطين”؟ وربما بمنطق آخر، بغض النظر أيهما معه الدولة؟ الإسرائيليين أم الفلسطينيين؟ إن مفهوم الحقيقة هاهنا مبهم، وغير واضح. فلا يوجد كائن في هذا الكون يحكم كل شيء؟ والمرجعية لكل منهما واحدة، والإله المنتسب إليه كل فريق نفس الإله، فربما كان النزاع وجيهًا لو كان بين أتباع الله، وأتباع الصنم “هبل”، والجميع أهل كتاب، والشريعة التوراتية لا تختلف عن شريعة القرآن كثيرًا، بل الاختلاف على الأقل، والاتفاق على المجمل، إذن الصراع العربي الإسرائيلي مبني على أهواء ومنافع آنية، أتت على مبادئ ومُثل كبرى.
14- الاعتراف بوجود الآخر:
ما معنى “الاعتراف بدولة إسرائيل” من عدمه؟ وهل أنت بحاجة إلى اعتراف الآخر بوجودك، وهل عدم اعترافه بوجودك ينفي وجودك. تلك تناقضات يعيش فيها بعض الناس، وهي نوع من أنواع الدغماتية، أعطوا لأنفسهم الحق في الحكم على وجود الناس. ويسلبوا هذا الوجود بزعمهم بعدم الاعتراف به، وكلمة “الاعتراف” بحد ذاتها، تؤكد الاعتراف بحقيقة استيقنتها أنفسهم، ومع ذلك جحدوا بها، وسواء كانت إسرائيل دولة أو لا دولة، فهي موجود وقال بعضهم، إنها “دولة دينية” قائمة على أساس ديني، والجنسية داخل هذه الدولة تكون لليهود دون غيرهم. ذلك بأن الدولة الدينية دولة عنصرية على أساس الدين، والحق أن هذا الأمر ربما كان في أوائل عمر الدولة الإسرائيلية، أما الآن، فصار جواز السفر الإسرائيلي والجنسية، يحملها مواطنون من سائر الأديان.
وسواء هي دولة دينية أو دولة مدنية، فالدولة التي أقامها شعب من الشعب، لها احترامها، لأنها قامت على عقد اجتماعي اتفق عليه الشعب، والشكل الشرعي الوحيد للدولة، والسلطة السياسية، هو الذي يتفق عليه جميع الناس – أو معظمهم- في شكل حكومة من خلال عقد اجتماعي. هذا العقد يضمن الحماية لكل أتباع هذه الوثيقة.
رجع القول إلى “الاعتراف” من عدمه، عندما ينكر الإنسان وجود الآخر، رغم وجوده الحقيقي، فإن مجرد فعل الإنكار بحد ذاته يعد زيفًا، وتزييفًا للحقائق. كما أن إنكار الآخر، وهو موجود، معناه أن المُنكر يملك هوية الآخر، إن شاء أعطاه وإن شاء منعها، وفي الواقع، الهوية لا يملكها إلا صاحبها.
وهذه المسألة – مسألة عدم الاعتراف – ناجمة عن صدمة في الإدراك، فلما قامت دولة إسرائيل، وكان أحد الحكام يعد بإلقائها في عرض البحر، كما لو كانت سفينة، فلما قامت هذه الدولة رغمًا إن إرادة المحيطين لها، فلابد أن تحدث صدمة في الإدراك، ولا تحدث هذه الصدمة إلا إذا كانت ثمة مشكلة في الوعي.
وقيام دولة إسرائيل في المنطقة، بالشرق الأوسط، شكل صدمة نفسية للعقل الجمعي العربي، وتوفر في هذه الصدمة أربعة عناصر:
الضخامة: فكانت حدثًا جللاً صعبًا.
المفاجئة: يروى أنها كانت مفاجئة، رغم تلك المقدمات.
عازلة: أشعرت العرب بالعزلة، حينما اعترف العالم بإسرائيل.
لا حل لها: شعر العقل الجمعي، أنها مشكلة لا حل لها، فقد أصبحت إسرائيل واقعًا، ثم دولة قوية.
ولما تحققت العناصر الأربعة للصدمة كان “عدم الاعتراف” هي الميكانيزما الدفاعية المتوقع، فلما قويت الدولة، وصارت لها منتجات وسلع تجوب العالم، ظهرت ميكانيزما دفاعية أخرى وهي “المقاطعة”. أما الاقتتال على حدود الدولة، فهو صراع من أجل البقاء، أو هكذا أراد صانعوه أن يكون، ولكن لو آمن كل منهم بالآخر ما اقتتلوا أو ما سفك الدماء.. فأي اقتتال على الأرض هو انحراف عن علة الخلق، وفطرة الإنسانية وتحقيق لمخاوف الملائكة، يفسد فيها ويسفك الدماء”.
15- القبلية والبعدية:
كل فريق يزعم أنه على هذه الأرض قبل الآخر، وإن كانت حجة الفريق الإسرائيلي أقوى، حيث كانت مملكة داوود، ومن قبل دولة إسرائيل في الشمال، ودولة يهوذا في الجنوب، وكلهما بعد ما دخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، بقيادة يوشع بن نون، ولما كثر قادة الصائل، وكانوا اثنتي عشرة أسباطًا أممًا، أرادوا أن يتحدوا في شكل دولة، بقيادة حاكم واحد ومن تحته زعماء القبائل والقضاة، وقالوا ] ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا [، واختير لهم “طالوت”، ومن بعده داوود وسليمان، ملكًا إسرائيل القديمة.
والعجيب أن داود وسليمان في المعتقد اليهودي مجرد حاكمين، بينما في الديانة الإسلامية داود وسليمان نبينا، وقد حكما دولة إسرائيل القديمة، وجعله الله خليفة في الأرض يحكم بين الناس بالحق، لا يظلم، ولا يشطط، وأسال له الله النحاس، وألان له الحديد، ونشأت حضارة إسرائيلية، بل وصف القرآن المملكة الإسرائيلية وصفًا أسطوريًا إلى الدرجة التي سخر لهم الطير والجن ] وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [، ومثل هكذا دولة، بلغت من القوة والنفوذ، أن أتوا بعرض ملكة سبأ، وجاءته بلقيس وهي مذعنة، ودانت له الممالك من حوله. أقول إن هكذا تصور لا يختلف عليه أتباع الديانات، بل إنه محض عقيدة، ويتعبد المسلمون بتلاوة هذه الآيات، واستذكار هذه المعاني، وينسفون الحقيقة الإسرائيلية الحالية، بأنهم أولى بموسى وداود وسليمان من اليهود أنفسهم. وقد أرسى النبي محمد هذا المبدأ وصاغه في سلوك تعبدي بصيام يوم عاشوراء، نفس اليوم الذي تعظمه اليهود، وهو يوم نجاة الإسرائيليين من الفراعنة، وقال نبي الإسلام كلمته الشهيرة: “نحن أولى بموسى منهم” فصامه النبي محمد.
إن النزاع حول القبلية والبعدية، وإن كان تاريخيًا في صالح إسرائيل، إلا أن هذا المنطق، ليس بقوة الواقع، فهي دولة قائمة بالفعل، ومن الطبيعي أن تتحمل جذورها التاريخية، وليس جذورًا مزعومة أو محض أساطير، بل هي عقائد مستقرة في أذهان الطرفين على حد سواء.
الواقع أقوى من التاريخ، وأصدق إنباءً من أي دليل، فالواقع لا يكذب.
وتلك الفرضيات التاريخية، لا تستوفى المعايير المنطقية فحسب، بل هي نصوص دينية عند أتباع الديانات السماوية، فهي من منطقهم مطلق المعرفة.
أما الذين يعتقدون أن الدين خرافة، فهم ينكرون المرجعية الإسرائيلية برمتها، فكثير من الساسة والقادة يعتقدون أن الكتاب المقدس، والقرآن ليس وحيًا إلهيًا، ومن ثم عليهم أن يتقابلوا مع هذه النصوص، كأنها سرد تاريخي يأخذ منه ويرد. ومن ثم يرون أن الواقع يكفي لنا لبناء حقيقة وجود إسرائيل، وليس بحاجة إلى هكذا تأصيل.
ما أريد أن أخلص إليه، أن القبلية والبعدية، وإن كانت في صالح طرف، فهي ليست حجة، وأن الحوار واجب، والاتحاد بين أصحاب الديانات ضرورة واقعية.
16- اتحاد الأديان أو اتحاد الأتباع:
لما كان معتقد أتباع الديانات، أنها من مشكاة واحدة، ومن مصدر واحد، وإله واحد، ودين واحد في الأصل، بل كله ترجع إلى نبي واحد إبراهيم، وهو أساس كل الأديان السماوية الحالية، وهو أمة واحدة، فكرًا، ونبلاً، وحكمة، ولا يرضى إلا باتحاد ولده، كان هذا الاتحاد واحدًا، ضروريًا وإن كان مثاليًا.
وقد أوضح القرآن، أنه لا يحيد عن طريق إبراهيم: ] إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [ ووصى أبناءه وأحفاده باتحاد الصف، خلف دين واحد، وأن الله قد اصطفى لكم الدين، وعاهدوه: ] نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [.
ومن ثم بات ضروريًا وجود “وثيقة إبراهيمية” تذكر ما اتفقت عليه الأديان الثلاثة، لتكون كلمة سواء بين الفريقين.
إن حبي للإنسانية هو ما دفعني أقول بهذه الوثيقة، ويشفع لي نبل مقصدي، حقنًا لدماء الملايين، وإتاحة الأرض المقدسة للزيارة الحرة لكل إنسان بغض النظر عن دينه.
وإن ما يتفق عليه الجميع يكون صحيحًا، بغض النظر عن النيات الكامنة لكل فريق، وأن النفس البشرية هي أولى بالحفظ والرعاية، يجب أن تقتضي الوثيقة، إيقاف الصراع، وإقامة المجمعات الدينية المشتركة، وكذا الجامعات والمدارس، بحيث يتخرج جيل متسق ومتحاب، ثم إن هذه الوثيقة التي تضعها لجنة ثلاثية، بإشراف قائد عظيم له قبول بين الأطراف الثلاثة، سوف تحقق حرية التعبد في الأراضي المقدسة التي كتبها الله لأتباع إبراهيم.
إن من السهل على الإنسانية أن تتفق فيما بينها على مفاهيم كبرى كالتسامح، والجمال، والطيبة، والعفة، والإنصاف، وهي موجودة بالفعل في فطرة الإنسان، بل هي خارج نطاق الزمان والمكان، ولا نتأثر بما يحدث في الواقع.
إن الوثيقة الإبراهيمية، تهدف إلى إيجاد معنى للحياة، واكتشاف الفضيلة في كل دين، ويتغافروا فيما اختلفوا فيه، ويتعاونوا فيما اتفقوا عليه، وهذا لا يكون، إلا بإرادة حرة في قرار اتحاد أتباع الديانات.
لقد بني المجتمع على قيم، ومن الخطأ أن يتصارع البشر على أشياء مادية، تضر أكثر مما تنفع.
إن التجمع الإنساني حول مبدأ سواء، له أثر قوي على السلوك الإنساني، فتصنع جيلاً متصالحًا من البشرية القادمة، قد لا يلمس الفرد الحالي هذا التصالح العام، ولكن هذه النظرية لها أثرها على أجيال قادمة.
إن البشرية تكون أكثر هدوءً حينما تجتمع حول حلول مشتركة ترضي كل الأطراف.
والتفكير الجماعي حول وثيقة للأديان، يساعد المجموع في الوصول إلى رؤية مشتركة حول معظم القضايا، وعندما يكون الجميع موافقًا على الوثيقة، والتي هي في المسافة المشتركة، فسوف تضعف الحجج المعارضة للوثيقة، والتي بدورها تكون في صفات الصراع دون الوئام، وفي صف الحرب دون السلام، وبمرور السنين تتهافت دعاوى الصراع والحرب وتنزوي.
ومع تقدم الآلة، ومع تطور التكنولوجيا، وتنامي الصناعات العسكرية، والأسلحة الفتاكة، لن تكون الحروب المستقبلية في مصلحة أي طرف، فحجم الدمار جراء الأسلحة البيولوجية أو النووية، أو حتى الأسلحة الفيروسية المرتقبة لن تبقي أحد، لذا ستكون الإنسانية ورغمًا عنها، شاءت أو أبت مدفوعة دفعًا نحو السلام العام، وستصونه، وسترتدع كل عنصر مارق على السلام، بل سيكون هناك ميل عام لقمع أي صوت منادٍ للحرب.
لذا انا لستُ مع الأساطير المستقبلية، التي يبثها بعض رجال الدين، أن الشر قادم، والعالم إلى زوال، والحرب العالمية الثالثة قادمة، وأن ثمة فتن كقطع الليل المظلم، وأننا في إقبال من عصر الدجال الأكبر، يجوب العالم يدعو البشر إلى الإيمان به دون الإيمان بالله. إن هذا الهروب إلى المستقبل ميكنزما دفاعية لحالة اليأس والانهزام، وهذا الكلام لا يصدر إلا عن مهزوم.
والأولى برجال الدين، يبشروا الإنسانية، بخير قادم، وأن جزيرة العرب تمتلأ مروجًا وأنهارًا، وأن ثمة اتحادًا أمميًا رشيدًا يجوب العالم، ويفيض المال، ويسير السائع من صنعاء إلى حضرموت آمنًا لا يخشى إلا الله.
ولكن من المؤسف، لم نر هؤلاء يبشرون الناس بمستقبل طيب سعيد، فعلى مدار الغروب، كانوا يبشرون بالدمار والخراب.
ومع هذا التطور في العقل البشري، هل ثمة مصلحة لأحد في طرح خطاب ديني مؤجج للصراع دون الصلح، برغم ان الآخر، يجنح للسلم في غير ما مرة، ويمدون يد السلام.
لقد بلغ العقل البشري مبلغًا عظيمًا من المعرفة، وصعد القمر، وزرع الأعضاء، وابتكر الذكاء الاصطناعي وصار العالم قرية صغيرة، والأرض مسطحة تكنولوجيًا، فهي يعجز بعد ذلك أن في دمج الأديان، وتوحيد الصف الإنساني؟
أقول، إن العقل البشري في طريقه بعد هذا التطور لإيجاد حلول لكافة الإشكالات الدينية، وسوف يقل ارتباطه بالأرض، فلا فرق بين أرض وأرض، وسوف تسهل حركته، وترفع القيود حول السفر والتنقل، سوف يختفي مفهوم الهجرة فالعالم صغير، ومتاح لأي إنسان في كل وقت، انظر مثلاً المدن الحديثة كدبي، ومومباي، سنغافورا، صارت وطنًا للجميع، وسهولة الإقامة والتنقل بات يسير، وهذا الأمر سينامي، وينتشر، وبالتالي يتلاشى التعصب الجغرافي، ويقل التوتر الإنساني بارتباطه بأرض معينة، وبالتالي نعود للمبدأ الأصيل أن الأرض كل الأرض للأنام.
في بداية الأمر سيكون من اليسير أن يتحالف إتباع الديانات، لكم دينكم ولي دين، في حب وتسامح، ولكن إتباع الديانات يعبدون إلهًا واحدًا، فليس ينطبق عليهم النص القرآني ] لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [.
والمستقرأ للتاريخ، لا يرى مثالاً للاندماج بين الأديان، فمثلاً، لم نرى اندماجًا بين المسيحية واليهودية، بحيث ينتج عنهما دين واحد، ولكن هناك فرق تخرج متقاربة بين الأديان، كالمسيحية فهي هجين، وربما تحول تيار فلسفي إلى دين كالبوذية، مع مسافة واحدة يقفها نحو الجميع، أو دين إطاري عام كالنفوشية التي لا تعارض أن تكون مسيحيًا أو مسلمًا، مع احتفاظ بالإطار العام الكنفوشي.
أما تفتت الأديان إلى أديان صغيرة أو مذاهب عقائدية – وليست فقهية – فقد يخرج من الدين الواحد مئات الأديان والمذاهب العقائدية، وكل مذهب يكفر المذهب الآخر، كالشيعة والسنة، حتى في الجماعات الدينية الحديثة، هناك جماعة تسمى “براءة” انشقت عن جماعة التكفير والهجرة، وكلاهما يكفر بعضهم بعضًا.
وفي عصور الاضطهاد المسيحي، تلقى أتباع المسيح المعاناة بسبب هذه المذهبية وفرقوا دينهم وكانوا شيعًا.
فالتاريخ الديني المذهبي مرير، انظر إلى التجارب السابقة، الخوارج من السنة، والاثنى عشرية من الشيعة، وكل هؤلاء يعد دينًا بحد ذاته، والأحمدية لها نبي مستقل بذاته.
والحاصل أن الدين الواحد، تتوالد منه أديان، وفي التاريخ، تطلق لفظة “الطائفة” على عدد من الناس خرجوا بمعتقد مغاير عن أتباع الدين، وتطلق لفظة “المذهب” إذا كان الخروج فقهيًا وتطلق لفظة “جماعة” إذا كان الخروج حركيًا، ولايزالون مختلفين.
إن توالد الأديان على هذا النحو، في كل حقبة تاريخية جدير بالنظر والدراسة، وأنها عملية غير صحية، فهي في كل مرة تفضي إلى الموت، ويرجع بعضهم يضرب رقاب بعض، سواء من أبناء الدين الواحد أو من أبناء الكتاب، أو أتباع الرب الواحد، أو حتى الإنسانية، والإنسان يولد على الفطرة، ولكن تأتي المشكلة من الدين المغلوط، فينحرف بالإنسان بفطرته السليمة إلى حالة عدوانية مدمرة للآخر. فالسبب الطارئ عليه هو الدين المغلوط، فإذا نحت البشرية معتقاداتها مقابل العيش في سلام سيكون.
كذلك الأصل في البشرية الاختيار، وحرية الإرادة أفلحت إن تطهرت من عدوانية الأديان، وخابت إن جرعت هذه الروح الشريرة.
وطالما أن عملية توالد الأديان، وتحولها إلى مشتقات عقائدية ومذهبية عبر التاريخ بطريقة تصارعية عنيفة، فمن الأفضل الآن ونحن في عصر النهضة العلمية والتقنية أن تتم عملية اتحاد الأديان بطريقة منظمة تهدف إلى السلم الاجتماعي، ولقد حث النص القرآني على هذا المبدأ ] ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [ ولم يقل الإسلام، فالغاية الإنسانية من حفظ النفس أولى من أي امتياز ديني.
17- سنة التدافع أم سنة التعايش:
ومن الناس، من يزعم أن الأصل في العلاقة البشرية التدافع ويقصدون به الصراع، ويستدلون بالنص ] وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ[ وهو مفهوم مغلوط، فالنص يتحدث عن تدافع، ودفع وحض نحو الإصلاح دون الفساد، وحقن الدماء دون سفكه، ] وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا [ فالتدافع هنا في ذلك النص، ليس صراعًا، لا علاقة له بالحروب أو الحض عليها، ومعاذ الله أن يكون الهدف من الخليقة، أن ينزلهم الأرض ليتصارعوا ويتقاتلوا، فها يجعل من حكمة الخلق عبثية، ونهاية الإنسان عدمية، وكيف يؤول هذا الوجود الحكيم والبديع إلى العبثية.
وهكذا يستقيم المعنى ] ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [، فالفساد الذي طرأ، خلافًا لأصل الطبيعة الإنسانية، إنما بسبب سلوك منحرف، وإلا لو أخذوا على أيديهم لنجوا جميعًا.. وبالتالي يكون التدافع ليعود الشيء لأصله، ولتكون البشرية في وضع السلام الدائم.
وفي قصة قابيل وهابل، خير دليل، أن الأصل هو التعايش، وأن رد العدوان إذا أفضى إلى شر أكبر، وجب الامتناع عن الرد ] لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ [والذي يمنعه من رد العدوان هو الخوف من رب العالمين، لم يقل له “لئن بادرت بالقتل فسأقتلك” حتى لا تكون سنة، ولا تكون ثأرًا، وتركة مريرة تتوارثها الأجيال.
إذن قول البعض أن سنة التدافع بمعنى القتال، هو قول باطل، فإذا دار الصراع المؤدي للطريقين كان النص مؤكدًا على الأصل “ولا تعتدوا”.
18- الإنصاف:
ولو كان الاختلاف بين البشر هو سمة في الطبيعة البشرية، بمعنى التنوع، فقد خلق الإنسان متنوع البشرة، ومتنوع الطباع، ومتنوع الثقافات، فإن هذا التنوع يؤدي إلى التكامل، فإذا أدى إلى التناعر والتفاخر كل عِرق على عرق، عُد ذلك من الجهل المفتت.
ولو أدى الاختلاف الثقافي، إلى التنابز والتناحر الفكري والوجودي، كان الإنصاف مرجعًا لكل فريق، وقد نص القرآن مع المختفين معه من أهل الكتاب ]لَيْسُوا سَوَاءً [وأخذ يمدحهم، أي يمدح اليهود ] مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [ بالحق، وقال فيهم ]وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ[، وأمكن المدح في بعض اليهود: ] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [دلالة على النزاهة المالية، والوفاء بالعقود.
فرغم الاختلاف، كالإنصاف واقيًا من الصراع.
وقال: ] أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [.
وقال: ] وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[.
وقال: ] فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [، والعفو والصفح الأخيرين ذكرهما فليس الأمة القائمة من اليهود فحسب، بل ذكر ذلك لعد قوله ]فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[.
19- التعايش والتطبيع:
وكلاهما واحد، والطرف الأضعف، هو من يرفض التطبيع خوفًا على هويته الضعيفة، وإلا فالقوي لا يضيره أن يتعايش، ويدخل ديار الآخر.
والتطبيع وفق القرآن ظاهر وبين، وفيه يتضح رغبة حادة على الانفتاح على الآخر: ] وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [، ]الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ[، والطعام والجنس من الحاجات الأساسية لوجود الإنسان، وهما في قاعدة هرم ماسلوا، للحاجات الإنسانية، وهما حاجتان أساسيتان للبقاء، ويترتب على الأكل والزواج من اليهود وسائر أهل الكتاب.
أولاً: دخول البيوت.
ثانيًا: الزواج والمصاهرة.
ثالثًا: الترابط الأسري.
رابعًا: الصلة والبر وحضور المناسبات.
خامسًا: التعلم سويًا.
سادسًا: العمل سويًا.
ثامنًا: التدافن، ففي حال الموت، يقف الآخر مؤذرًا ومعزيًا للآخر.
إنه امتزاج واضح بين المجتمعين، وإنك لترى الشركة الواحدة، والمؤسسة الواحدة، فيها من كل لون ودين، وتراهم ينجحون في تنفيذ هدفهم، وتنمو الشركة، وتنتشر عبر القارات والدول، وتواصل نجاحها، وهذه نماذج للمجتمعات التي نجح فيها التعايش، وهي تجارب أثبتت صحة مبدأ التعايش.
وحصن النص القرآني، أن الآخر ليس عدوًا، وليس كل آخر عدو، وليس كل عدو مقاتل؛ فالأصل ] وَلَا تَعْتَدُوا [والآخر له البر والقسط، والخير والعدل ]أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [.
فقد ارتضى النص الديني أن يجتمع أهل الأديان، أن يأكلوا من طبق واحد، ويتزاوجوا، ويكون بينهم البر والقسط، وأنهم ليسوا سواء، وأنهم مأتمنون على المال، وكل تلك المبادئ داعمة لظهور “كلمة سواء” بين هذه الأطراف.
20- الإبراهيمية:
وهي دين إبراهيم، وهي حاصل ما اتفقت عليه الأديان السماوية، بل الإبراهيمية هي جماعة ما اتفقت عليه كل الأديان، وهي الإسلام الحق، واليهودية الأصيلة، والمسيحية التي جاء بها المسيح، وهي الكلمة السواء التي في النص القرآني ] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [. والكلمة السواء تقتضي وثيقة تشتمل على العدل والإحسان، والرحمة، والفضيلة، وسائر الخبرات الوجودية التي اتفقت عليها البشرية وفي النص القرآني ] وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [.
وإبراهيم هو الأب لإسحاق، وإسماعيل، وإسرائيل، ومحمد، ومن قبل كان آدم أبًا لكل البشرية، فنحن واحد.
وإبراهيم الذي وفى، وكان أمة، وله لسان صدق في الآخرين، وعليه الإجماع من أصحاب الديانات ما ليس لغيره من النبيين، بل إن داود وسليمان، ملوكًا عند اليهود، أنبياء عند المسلمين.
وكثير من أهل الكتاب، اتبعوا الأساطير، وكثير من الخرافات التي بدأت في زمن سليمان، حيث انتشرت أعمال السحر والشعوذة، ونمت تلك الأساطير واستفحلت، حتى نسبوها لسليمان نفسه ] وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا[.
لكن في كل حقبة تاريخية، كان الاتفاق على الإبراهيمية فهي أصل النبوات، كما أن سقراط أصل الفلسفات.
ومن صحف إبراهيم الأولى، انتشرت الشرائع السماوية والأرضية على حد سواء، وأخذت البابلية القديمة من تلك الصحف.
وقد جعله الله إمامًا للناس، وهذا في كل زمان، وآتاه رشده واصطفاه الله في الدنيا، وكما كلفه الله أن يضع قواعد البيت، كانت قواعد النبوات والكتاب والحكمة وخيرات الوجود، وأصول المجتمعات تدفق من لسانه وسلوكه أينما كان، وأن صبغة إبراهيم إنما هي صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة.
وفي معرض الحديث عن إبراهيم، والذين اتبعوه من الأنبياء من بعده، قال: ] أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [، وتلك حجة داحضة على أصحاب الديانات، إن اختلفوا، فالأصل من ورائهم، وإن صرف عنه المعترضون ] وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [ .
إن البشر خلائف الأرض، وبفطرتهم وتنوعهم، بعضهم فوق بعض درجات، في الثروات والثقافات، وكان التعايش السلمي ضرورة للبقاء.
والإبراهيمية هي المحجة البيضاء، وأولى الناس بإبراهيم الذين اتبعوه، وهي خير ما يتفق عليه أتباع الديانات، وتلك لسبب وجيه، إنه ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا، ودعوته اتفق عليها الجميع.
21- الوطن الحقيقي والعولمة:
الأرض عمومًا هي وطن الإنسان، وكل بقعة يجد فيها إشباع احتياجاته البيولوجية والنفسية، ويجد معنى لحياته، فإن تلك البقعة هي وطنه الحقيقي. وحياة الإنسان على هذا الكوكب، أشبه بالظرف الاضطراري، فهو يعيش فترة زمنية قصيرة، ودون المائة سنة، على كوكب عمره بلايين السنين والمفروض أن نعيش في حدود ما يوفره هذا الكوكب لنا من موارد طبيعية محدودة، وهذه الحياة القصيرة، وتلك الموارد المحدودة، لا تقبل التناحر عليها، وعلينا دومًا أن نتقارب يومًا بعد يوم؛ فالحياة طارئة، وأن الإنسان مرتبط بوجود أخيه الإنسان، ومستحيل أن يحقق الإنسان أهدافه على هذا الكوكب بمفرده، ومن دون هذا الترابط، فإن الحياة لن تستمر.
وإن الارتباط المفرط بالأرض، أو البقع الجغرافية التي وُلدنا فيها، على حساب معنى الحياة، وخيرات الوجود، والقيم الإنسانية، يجعل هذا الارتباط عائقًا نحو طردية ذو انتماء ويجعلنا عالقين وسجناء، ولكن حينما تتدفق الإنسانية في الأرض كلها كالنهر، فإن الحياة على هذا الكوكب تزداد جودة.
ومع التقدم الحضاري المتسارع، باتت الحدود الجغرافية واهية، والأرض تنتقص من أطرافها، فتصير قرية وعالمًا مسطحًا، وسهولة في التنقل والاستيطان، ومع التزاوج المتزايد من أهل الجنسيات والديانات، تذوب الفوارق، ويعودوا أمة واحدة.
والبشر لا يبحثون عن أوطان أو بقع جغرافية، بقدر ما يبحثون عن معنى لحياتهم، وأن الحرية أغلى من الوطن. وهذا المعنى شئنا أو أبينا ظاهر مبالغ، فالناس يتركون أوطانهم إذا ما ضيق عليهم، بل يشترون الجنسيات من أجل أمانهم وأمان ذرياتهم، ولا يقدمون على ذلك إلا بسبب وجود خطر يهدد أمنهم ووجودهم.
وبمرور السنين، ومع هذا التقدم المتسارع، سوف تذوب الحدود الجغرافية، وتسهل حركة التنقل والسفر والهجرة بين البلدان، وسوف يكون العالم منساقًا وراء امتزاج حضاري، وتواصل شعوبي، ومصاهرة بين الناس، واختلاط عجيب بين الشعوب، كما نرى بوادر ذلك في بعض المدن الحديثة.
سوف تسقط كثير من القضايا العقائدية من نفوس الناس، ويصبح العالم شركة متعددة الجنسيات تغلب فيه مصلحة الشعوب الآنية على كثير من القضايا الدينية والسياسية، أو تلك التي كان يراها كذلك.
ولكون العالم في اتجاه الصغر، والقرية، والأمة الواحدة، وهكذا كان أول مرة، وطول العهد بالأديان المتصارعة، فإن الإنسان حينما يجد نفسه بين خيارين، جمود الأديان أو الانصراف عنها، فسوف تكون محاولات للحوار الديني المنفتح، أو الانصراف عن المعتقدات الدينية التي يراها الإنسان تعيقه.
و”جور الأديان”، وهو مصطلح “ربعي بن عايز ¬ لا يمكن أن يكون أساسًا لبناء حضارة أو عدالة بين الأمم بل كانت دومًا تلك الأساطير عاملاً من عوامل ضيق الدنيا، والعنصر الأساسي في عصور الظلام”.
ودعونا نكون صادقين مع أنفسنا، إذا كان أصحاب الدين الحق، يتقاتلون، ويكفر بعضهم بعضًا، فهل هؤلاء مؤهلون لحوار مع أهل الأديان الأخرى؟
ولقد عايشت أيام السجن، في الزنزانة الواحدة، قومًا من ذات الجماعات، وهم أبناء جماعة واحدة، يلعن بعضهم بعضًا، ويكفر كل منهم الآخر، وهم من جماعة واحدة. ثم هم يصلون ويقنتون في الصلاة وكل يدعو على الآخر في قنوت الفجر تلميحًا. وفي كل خطبة جمعة يتشاجرون، ويتناقرون كالديكة، ويزعم كل منهما لقذف عرضت بي في خطبتك.
وتلك الطفيليات الدينية، التي كنت أحضر صلاتي إلى صلاتهم، ويستحلون متاعي وأغراضي في السجن، لم يفلحوا حتى أن يتحاوروا مع أنفسهم، بل أوقن أن الواحد منهم غير متصالح مع نفسه، فكثير منهم كفروا آباءهم وأمهاتهم.
وفي الوقت الذي يقول القرآن ] وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [ كان أبناء تلك الجماعات التكفيرية يرفضون أكل لحوم الهجن، فهم يرون أنها ذبائح لا تحل لهم، وإذا كفر أحدهم الآخر، صلى المكفر منفردًا، وذلك لاعتقاده أن الآخر لا تصح صلاته.
22- العالم كشركة كبيرة:
مع هذا التطور المتسارع، ونمو الأسواق الحرة، والشركات متعددة الجنسيات، هذا التحول خلال العقود القادمة، سيؤكد نظريتنا القائلة بتهاوي الحدود الجغرافية، وامتزاج الشعوب، والعمل معًا داخل شركات متعددة الجنسيات، وهذه الشركات ستنمو إلى درجة أن رولاً صغيرة تتبعها ثم إن ميزانياتها، ستكون أعلى من ميزانيات كثير من الدول، كما هو الحال في شركات كآبل وميكروسوفت، وجنرال إليكتريك.
ومع الزيادة في طبع النقود وتزييفها، وهذا ما يشكل تهديدًا خطيرًا لأي معروض من النقد المتداول، سوف تسقط تلك العملات الورقية الصادرة من حكومات ضعيفة، كلما سقطت حكومة سقطت عملتها، وسوف يهتدي العالم إلى عملة موحدة لها خصلتان: الأولى: أنها إلكترونية، والثانية: الغطاء الذهبي.
سوف تتغول الشركات متعددة الجنسيات، ويكون لها سندات ذات قيمة وقبول لدى نفس البشر أكثر من السندات المحلية.
ولما كانت النقود الورقية الحالية مدعومة بالثقة، فإن أي حدث يحمل على تآكل هذه الثقة، يصبح مدمرًا لهذه العملات، وهو ما سيكون، والتكرار المتكرر لانهيار العملات سيدفع البشرية نحو العملة الإلكترونية ذات الغطاء الذهبي فضلاً عن الذهب الطبيعي سوف ينتقل العالم ويوغل في اقتصاديات السوق الحر، والذي سيكون أكبر من الحكومات، موليًا وراء ظهره: الاقتصاديات التقليدية، والاقتصاديات الموجهة من الأنظمة، سيكون العالم هونج كونج على نطاق أوسع.
ولك أن تتخيل حجم التطور في الصناعة المصرفية، الذي سيواكب هذا التقدم والانفتاح، وظهور بنوك عابرة للقارات، لا تخضع لسلطة مركزية وبنوك شبكية، وبنوك متناهية الصغر.
والتكتلات الاحتكارية التي تشبه شركة بريد واحدة وشركات الكهرباء والماء، سوف تقل سلطة الحكومات. وفي المقابل حرية اقتصاد، ناجمة عن حريات عامة.
سوف تكون الحكومات داخل الأسواق، مثلها مثل الشركات وكافة الخدمات والسلع تخضع للعرض والطلب.
وقد شهد مطلع هذا القرن، نظامًا جديدًا، إذ اتحدت أوروبا اقتصاديًا، على عملة موحدة، هي اليورو، وهذه التجربة ستتنامى وتتطور، فالدول يمكنها، أن تتاجر معًا بكل حرية، دون النظر إلى أسعار الصرف، ولا يمكن لدولة منفردة أن تتحكم فيه، كل هذا سيجعل من العالم قرية صغيرة.
وهذا التدفق في عوامل الإنتاج، والتبادل التجاري، سوف تتنامى حالة الامتزاج حيث تتدفق كل من الأراضي، والعمالة، ورؤوس الأموال، ورجال الأعمال من العالم وإلى سائر العالم وهذا سيصاحبه امتزاج ثقافي واجتماعي وديني يحقق التعايش المنشود بين أتباع كل دين.
والدين الحق، يمكن للروح الإنسانية من التلاقي، في ظل وفرة من الخيرات، وتدفق طبيعي للثروات، بعضهم يموج في بعض أمة واحدة، وباتت نظرية صامويل هنتجتون حول صدام الحضارات مجرد خرافة.
فالمبدأ الفطري الأول، هو الإنشاء من الأرض، والاستعمار فيها، والإصلاح فيها، والتعارف فيها، وكل هذه القيم العليا تتطلب تعايش بين الأديان، وسلام دائم.